أثر العبادة على الفرد والمجتمع

0 1315
  • اسم الكاتب:عبد العزيز سالم شامان الرويلي

  • التصنيف:أحوال القلوب

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه.قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون . إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} [الذاريات:56-58]. لقد دلت هذه الآيات على أن هناك غاية معينة لوجود الجن والإنس، ووظيفة محددة هي العبادة؛ قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56]، ومن هذه الآية يتبين كذلك أن مدلول العبادة لا بد أن يكون أوسع وأشمل من مجرد إقامة الشعائر التعبدية، فالجن والإنس لا يقضون حياتهم في إقامة الشعائر في الصلاة والصيام والأذكار، فالإنسان مكلف بالخلافة في الأرض، وهي تقتضي ألوانا كثيرة من النشاط الحيوي في عمارة الأرض، والتعرف إلى طاقتها، وتحقيق إرادة الله في استخدامها وتنميتها، كما تقتضي الخلافة القيام على تنفيذ شريعة الله في الأرض.قال ابن تيمية: "القلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة، وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلة؛ فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا ينعم ولا يسر ولا يلتذ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة، وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له؛ فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائما مفتقر إلى حقيقة {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة:5]".

ونستطيع أن نتخذ من هذه الغاية مقياسا نحكم به على الأفراد والجماعات، فمن تحققت له هذه الغاية في التعرف إلى ربه، وامتثال أمره ونهيه، والوقوف عند حدوده، وارتقت مشاعره، فصار يحب لله، ويبغض لله، ويمنع لله، فإنه من المنظور الشرعي قد صلح أمره، واستقام حاله، ورجي خيره، وأمن شره، وهذا الصنف من الناس هم الذين يصفهم القرآن الكريم بالعقل، فهم أولو الألباب دون سواهم؛ لأن العاقل من عقل عن الله أمره ونهيه؛ قال سبحانه وتعالى: {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد} [الزمر:17].إنهم الذين ينتفعون بعقولهم وقلوبهم، وأسماعهم وأبصارهم، فيذكرون الله مستحضرين ما له من جلال وجمال، وإحسان وكمال، ويتفكرون في خلق السموات والأرض وبديع آيات الله عز وجل ويبتهلون إليه، ويتوكلون عليه، تنحصر في الآخرة همتهم، وتلهج بالخير ألسنتهم، قال سبحانه وتعالى: {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار . ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار . ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار . ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد} [آل عمران:190-194].وأما من حالت شهوته وهواه، وإيثاره لهذه الحياة على ابتغاء مرضاة مولاه والرغبة فيما عنده، وعجز عن تحقيق هذه الغاية والالتحاق بها، فإنه خسر الدنيا والآخرة، وضيع حياته سدى، ويتحدث القرآن عن هؤلاء فيقول: {نسوا الله فنسيهم} [التوبة:67]. وقد أكد الله تعالى في كثير من الآيات على دعوته لعباده أن يعبدوه ويتقوه؛ قال تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون . الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} [البقرة:21-22]. قال السعدي في تفسير هذه الآيات: "هذا أمر عام لكل الناس، بأمر عام، وهو العبادة الجامعة، لامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، وتصديق خبره، فأمرهم تعالى بما خلقهم له، قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات:56]".

وهنا الخطاب عام لكل البشر على حد سواء، فالكل مأمور بعبادة الله وتوجيه هممهم وإرادتهم وعزمهم إلى خالقهم وربهم عز وجل دون أن يشركوا معه أحدا، وعالي الهمة يعلم أنه إن أراد الفلاح والنجاة، فعليه أن يطيع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ويستجيب لأمر ربه ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم والاستجابة تتمثل بتنفيذ أوامرهما دون تردد أو تخاذل، وكل أمر ما هو إلا عبادة يتقرب بها العبد من ربه؛ لينال تلك المنزلة التي يطمع أن يصل إليها، وهي رفقة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم. يقول تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا} [النساء:69]. جاء في تفسير هذه الآية أن فيها ترغيبا في الطاعة، وتشويقا إليها؛ ببيان أن نتيجتها أقصى ما ينتهي إليه همم الأمم، وأرفع ما يمتد إليه أعناق عزائمهم من مجاورة أعظم الخلائق مقدارا، وأرفعهم منارا

والمراد بالطاعة هنا: الانقياد التام والامتثال الكامل لجميع الأوامر والنواهي. ومما لا شك فيه أن للعبادة أثرا عظيما على المسلم في تقوية إيمانه، وشحذ عزيمته، وإعلاء همته، وتربيته التربية الحقيقية، إلى جانب أنها تزكي في العبد ملكة المراقبة لربه، وترقيه إلى درجة المشاهدة والإحسان؛ فيعبد الله كأنه يراه. يقول الله تعالى: {فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} [المائدة:48]، جاءت هذه الآية في سياق ذكر أولئك الذين يسارعون في الكفر من اليهود والمنافقين: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} [المائدة:41]، فالواجب هنا على الجميع أن يبتدروا الخيرات ويسارعوا إليها؛ لأنها هي المقصودة لذاتها من الشرائع كلها، فلا ينظروا إلى الدين وما فيه من الخلاف والتفرق، بل ينظروا إلى ما فيه من الخير النافع للناس في الدنيا والآخرة، ولتكن الشرائع سببا للتنافس في الخير لا سببا للعداوة والبغضاء.

إن المنافسة في الخيرات تقتضي السباق والتسابق ثم التفوق، والتفوق المقصود: هو التفوق الذي يرتجى من ورائه رضا رب الأرباب، من هنا تأتي أفضلية البشر على بعضهم، والخيرات: كلمة جامعة لكل أنواع المرغوبات المباحة واللازمة لعيش البشرية، يقول الأصفهاني في تعريف الخير: "الخير:ما يرغب فيه الكل؛ كالعقل مثلا، والعدل، والفضل، والشيء النافع، وضده: الشر، والخير المطلق: ما كان مرغوبا فيه بكل حال وعند كل أحد". فأول السباقات التي ورد فيها الأمر بالمسارعة والمسابقة إلى الخيرات، يبدأ بآيات البقرة، فآية البقرة جاء في سياقها تحويل القبلة وما يترتب على ذلك من عزم وهمة ومبادرة لأمر الله وطاعته، وحسن إقامة الصلاة على الوجه الذي فرض الله. ومما يؤكد على المبادرة إلى الخيرات على وجه العموم والمسارعة وعلو الهمة في الأعمال الصالحة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:" بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا". ويحمل الحديث معنى الحث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل فوات أوانها وتعذر القيام بها؛ لما يحدث من الفتن الشاغلة عن ذلك، ولشدتها قد ينقلب حال الإنسان من الإيمان إلى الكفر، أو العكس.

ومن العبادات التي يجب على المؤمن أن تعلو بها همته عبادة الصلاة، التي من ضيعها ضيعه الله تعالى، قال تعالى: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} [طه:14]؛ أي: أقم الصلاة لتذكرني فيها؛ لاشتمالها على الأذكار، وقيل: لأن تكون لي ذاكرا غير ناس فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم وتوكيل هممهم وأفكارهم به. فمن علم منزلة هذه الصلاة لم يفرط فيها أو يقصر أبدا، ففيها النجاة أو الهلاك، وعالي الهمة يحرص على ألا يقطع الرابط الذي يربطه برب العزة، فهو عندما يسجد يكون أقرب الناس إلى ربه، وكيف له ألا يخشع إن علم أنه يقف بين يدي الله فتعلو همته وتسمو وترتقي، يقول تعالى: {الذين هم في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون:2]. ففي هذه الآيات مدح لمن علت همته في الصلاة؛ فمن كان خاشعا في صلاته، فهو من الفائزين ، وجاء في تفسير هذه الآيات أن المؤمنين قد صيروا إلى ما فيه صلاحهم، وهم ممن كانوا خاضعين خائفين، يقال: الخشوع خوف القلب، وحقيقة الإقبال في الصلاة على معبوده، والتذلل بين يديه، ويقال:هو جمع الهمة، ودفع العوارض عن الصلاة، وتدبر ما يجري على لسانه من القراءة والتسبيح والتهليل والتكبير. انظر إلى هؤلاء المؤمنين أصحاب الهمم العالية، وكيف وصفهم الله تعالى بأنهم أهل الفلاح والفوز، وهذه الصفة{ الذين هم في صلاتهم خاشعون } ترسم شخصية المسلم الحقيقي الموصوف بعلو الهمة، فإن قيمة الإنسان الحقيقية بعبادة الله تعالى وأعظم هذه العبادات هي الصلاة التي فرضت في السماء.

قال السعدي في تفسير هذه الآية: "هذا تنويه من الله، بذكر عباده المؤمنين، وذكر فلاحهم وسعادتهم، وبأي شيء وصلوا إلى ذلك، وفي ضمن ذلك: الحث على الاتصاف بصفاتهم، والترغيب فيها، فليعرض العبد نفسه على هذه الآيات وما شابهها، ويرى درجات إيمانه: أفي زيادة أم في نقص؟ فقوله: {قد أفلح المؤمنون} [المؤمنون:1]؛ أي: قد فازوا وسعدوا ونجحوا، وأدركوا كل ما يراه المؤمنون الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين، الذين من صفاتهم الكاملة الذين هم: {في صلاتهم خاشعون} [المؤمنون من الآية:2].فأصحاب الهمم العالية يستشعرون بقلوبهم رهبة الموقف في الصلاة بين يدي الله تعالى، فتسكن وتخشع، فيسري الخشوع منها إلى الجوارح والملامح والحركات، ويغشى أرواحهم جلال الله في حضرته، فتختفي من أذهانهم الشواغل، ولا تشتغل بسواه، وهم مستغرقون في الشعور به مشتغلون بنجواه. ويتوارى عن حسهم في كل ما حولهم وكل ما بهم، فلا يشهدون إلا الله، ولا يحسون إلا إياه، ولا يتذوقون إلا معناه، ويتطهر وجدانهم من كل دنس، وتعلو همتهم للمعاني، وينفضون عنهم كل شائبة، عندئذ تتصل الذرة التائهة بمصدرها، وتجد الروح الحائرة طريقها، ويعرف القلب الموحش مثواه، وعندئذ تتضاءل القيم والأشياء والأشخاص إلا ما يتصل منها بالله.

فعن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: "كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: سل، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أوغير ذلك، قلت: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود". فهذا الحديث قد ملئ بالفوائد والعبر، ومنها: عظيم همة ربيعة بن كعب وعلو قدرها، فقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم أعظم ما يطلبه المتعبدون، ويسأله الراغبون، ويرغب فيه الواعظون، ويبكي على بلوغه القائمون، ويعمل له العاملون، إنه الفوز بالجنة دار المؤمنين الصادقين؛ بل ليس الجنة فحسب؛ بل أعظم من ذلك، وهو مرافقة خير البشر صلى الله عليه وسلم فيها، فهذه همة عالية، ونفس تواقة، لم يرض من الدنيا بحطامها، ولا آثر الفاني على الباقي، وهذه همة وعزيمة من عزائم أهل الهمم العالية، فهؤلاء هم السابقون الذين اشتغلوا ليل نهار بالعبادة والطاعات؛ ليفوزوا بجنان عرضها السموات والأرض، وليستحقوا مرافقة نبي الرحمة، وليكونوا أمة محمدية موصوفة بعلو الهمة.
وقال تعالى: {إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين} [الأنبياء:106]، قد ذكر في هذه السورة الكريمة من الأخبار والمواعظ البالغة، والوعد والوعيد والبراهين القاطعة، الدالة على التوحيد وصحة النبوة، وهذه الآية جاءت بلاغا لقوم همهم العبادة، وقيل: إنهم يصلون الصلوات الخمس في جماعة . ففي هذه الآية خاطب الله تعالى فيها من حرصوا على بلوغ المعالي، وسلوك سلم العوالي، فلم يقفوا عند الدنايا، وتذكروا الوعد العظيم، وخشوا الوعيد الأليم، فعبدوا الله وأحسنوا عبادته، فقال عنهم الله تعالى واصفا حالهم: {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين} [الأنبياء:73]. ولقد كانت سورة الأنبياء تتحدث عن الأنبياء الذين يسارعون إلى الخيرات لعلو همتهم، وجاء بعدها في القرآن سورة المؤمنون، لتتحدث عن الذين اقتدوا بالأنبياء وساروا على هداهم، واتصفوا بصفات التقوى والصلاح، فكانت النتيجة علو همتهم، ورضا الله تعالى عنهم.
وقال تعالى واعدا أصحاب الهمم العالية الذين يعملون الصالحات بالجنة: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات} [الشورى من الآية:22]، قال الآلوسي في تفسير هذه الآية: "..استعملوا تكاليف الشرع لقمع الطبع، وكسر الهوى، وتزكية النفس، وتصفية القلب، وجلاء الروح، في روضات الجنات في الدنيا جنات المعارف، وطيب الأنس في الخلوة في روضات الجنة، لهم ما يشاءون عند ربهم حسب مراتبهم في القربات وعلى قدر هممهم" .

وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} [الجمعة:9]. وما ذكره الزمخشري في تفسيره لهذه الآية أن فيها خطابا للمؤمنين بالمبادرة إلى تجارة الآخرة، وترك تجارة الدنيا، والسعي إلى ذكر الله عز وجل وترك البيع، ثم أطلق لهم ما حظر عليهم بعد قضاء الصلاة من الانتشار وابتغاء الربح، مع التوصية بإكثار الذكر، وألا يلهيهم شيء من تجارة ولا غيرها، وألا تكون هممهم في جميع أحوالهم وأوقاتهم موكلة به لا ينفضون عنه؛ لأن فلاحهم فيه، وفوزهم منوط به. فأصحاب الهمم العالية فهموا حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، فأعطوا كل شيء حقه بلا إفراط ولا تفريط، فعند الصلاة والعبادة ارتفعت همتهم، ولبوا نداء الله، وسعوا مسرعين تاركين وراءهم تجارتهم وأموالهم، ابتغاء وجه الله، فانظر إلى هؤلاء كيف علت همتهم فانخلعت شؤون التجارة من نفوسهم، فها هو التحرر المحض والانقطاع الكامل لله عز وجل فكانت همتهم عالية ترتقي إلى معالي الأمور.

أهمية العمل الصالح في بناء حضارة المجتمع الإسلامي:
العمل الصالح هو الساحة الفيحاء التي تتجلى فيها مفاهيم التصور الاعتقادي الصحيح، وهو ميدان فرسان بناة الحضارة. والأعمال المبرورة المنبثقة من الإيمان بالله جل جلاله كانت شواهد صادقة، وبراهين ساطعة، على صدق المعتقد، والهمة العالية في جديته. والبناء الحضاري الضخم العملاق الذي أرسيت قواعده على كلمة التقوى هو الشاهد الأقوى لتلك العقيدة السمحة القوية الرحيمة البناءة. كما أن العمل الصالح مرتبط بالخلق الكريم، ولا يشذ عنه؛ فالعمل في الإسلام مشدود بالمبادئ الخلقية شدا وثيقا، ومن هنا اكتسب صفة الصلاح الموضحة له. ومفهوم العمل الصالح واسع كبير، ومن الخطأ بمكان حصره في الأفعال التعبدية الصرفة فقط، وهذا المفهوم الخاطئ للعمل الصالح جعل فريقا من الناس يتقوقعون في زوايا النسيان والخمول، وغدت أمثلتهم عن العمل هامدة بلا حراك، فردية تؤثر التبتل والانقطاع عن أسباب الحياة ولجب طاحونتها. وقد دفع الفهم الصائب للعمل الصالح المسلمين أصحاب الهمم العالية إلى إنشاء حضارة ضربت جذورها في أعماق النفس، فجعلها تتشوق إليها، وتحاول النهوض من جديد للعيش في أفيائها الرحيمة؛ عسى أن تستريح من شقوة الحضارة المادية.

فإذا تأملنا الآيات التي انسابت تشرح العمل الصالح، لوجدناها آيات تتحدث عن العموم دون تخصيص، وآيات أخرى خصصت فسائل طيبة يزرعها المؤمن من أعماله في مزرعة؛ ليجني خيرها حضارة، ويحصد ثمارها في الآخرة جنة {ونعم أجر العاملين} [آل عمران من الآية:136].فمن آيات العموم في العمل قول الله عز وجل: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل:97]. وهكذا تتحول جميع أعمال الإنسان مهما حققت له من نفع دنيوي إلى عبادة إذا قصد بها رضا الله. ومن الأمثلة الحية في فهم العمل على أنه الإنتاج، وأنه يؤدي إلى علو الهمة تلك الخلية العاملة المدوية إبان محنة مزلزلة تعرض لها المسلمون في غزوة الأحزاب، والتي احتشدت فيها أسباب الابتلاء كلها؛ من التآمر الداخلي، والغدر بالعهود والمواثيق، والحشد الحربي المتحزب من أكبر القبائل العربية، فوصفه القرآن الكريم من قوله تعالى: {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا} [الأحزاب:11]، في تلك المحنة القاسية ظهر معنى العمل الصالح كما أراده القرآن الكريم، فاقترح سلمان الفارسي رضي الله عنه حفر الخندق حول المدينة المنورة، كان طول الخندق خمسة آلاف ذراع يعني ثلاثة كم وثلاثمائة وخمسين مترا، وعرضه تسعة أذرع "ستة أمتار"، وعمقه سبعة أذرع "أربعة أمتار تقريبا"، وكان العمل في جو بارد، وتقشف معيشة، ومطر وخوف، ومع ذلك كانوا في حمية ويقظة وهمة، وقسم النبي صلى الله عليه وسلم بين كل عشرة أربعين ذراعا، واستغرق هذا الجهد العظيم بضع عشرة ليلة، فانتهى هذا العمل الشاق في زمن قياسي؛ حيث افتقدت الوسائل الحديثة في الحفر، ولكن توفر الإيمان القوي، والعزم الفتي الذي حث الخطى بالنفس فصنعت العجائب، هنا يتجلى معنى العمل الصالح في بناء الحضارة الإسلامية.


 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة