خطاب الظاهر وإرادة المعنى

0 528

ليس يخفى أن القرآن الكريم نزل على وفق لسان العرب، وسننهم في الكلام، ومعهودهم في البيان، فالقرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، وعلى رسول عربي أمين، وخاطب ابتداء قوما يتكلمون بكلام عربي فصيح.

ومما توسعت العرب في كلامهم، قولهم: (لا أرينك ههنا) فلفظ النهي إنما هو للمتكلم، وهو في الحقيقة للمخاطب، والمعنى: لا تكونن ههنا؛ فإن من كان ههنا رأيته، ولا أريد أن أراك، فهو لا ينهى نفسه عن الرؤية، بل المراد نهي المخاطب عن حضوره له، لا أن يراه هو، فالرؤية مسببة عن الحضور، فكأنه قال: اذهب عن هذا المكان، وظاهر أن المخاطب ليس له أن يحجب إدراك الآمر عنه إلا بالذهاب عن ذلك المكان، فأتى بالمقصود بلفظ يدل على الغضب والكراهة؛ لأن الإنسان لا ينهى إلا عن شيء يكره وقوعه. وقد حكي عن سيبويه قوله: (لا أرينك ههنا) أي: لا تكن بالحضرة، فتقع عليك رؤيتي. وهذا من باب إضافة الفعل إلى من ليس له في الحقيقة. وهو أسلوب يقصد منه أمرين: الأول: المبالغة في النهي عن الأمر المنهي عنه. والثاني: الإيجاز، والاختصار؛ إذ لم يكن فيه نقص معنى.

وهذا الأسلوب من الخطاب ورد في مواضع عدة في القرآن الكريم، نستعرض جملة منها؛ ليزداد الأمر وضوحا، وليستبين المراد من هذا الأسلوب في الخطاب القرآني:

* قوله تعالى: {فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} (البقرة:132) وقع النهي في ظاهر الكلام على الموت، وإنما نهوا في الحقيقة عن ترك الإسلام؛ لئلا يصادفهم الموت وهم عليه؛ فإنه لا بد منه، وتقدير الكلام: لا تتعرضوا للموت على ترك الإسلام بالشرك والكفر بالله، فمراد الآية: الدعوة إلى الثبوت على الإسلام، والنهي في الحقيقة إنما هو عن كونهم على خلاف الإسلام، لا أن ذلك نهي عن الموت، بل هو نهي عن تعاطي الأشياء التي تكون سببا للموافاة على غير الإسلام. قال بعض أهل التفسير: "وهذا كما تقول: (لا أرينك ههنا) فتوقع حرف النهي على الرؤية، وأنت لم تنه نفسك على الحقيقة، بل نهيت المخاطب، كأنك قلت: لا تقربن هذا الموضع، فمتى جئته لم أرك فيه. ومثله من الكلام: (لا يصادفك الإمام على ما يكره) تقديره: لا تتعرض لأن يصادفك". قال الزجاج: "وهذا من سعة الكلام، والمعنى في الآية: الزموا الإسلام، فإذا أدرككم الموت، صادفكم عليه".

* قوله عز وجل: {فلا تغرنكم الحياة الدنيا} (لقمان:33) النهي في الظاهر موجه إلى الناس، والمنهي عنه من أحوال الحياة الدنيا، وليست الحياة الدنيا من فعل الناس، فتعين أن المقصود النهي عن لازم ذلك الإسناد، وهو الاغترار لمظاهر الحياة الدنيا، فتحصل أن المراد نهيهم عن الاغترار بها، وإن توجه النهي صورة إليها.

* قوله سبحانه: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان} (الأعراف:27) نهوا عن أن يفتنهم الشيطان، وفتون الشيطان حصول آثار وسوسته، أي: لا تمكنوا الشيطان من أن يفتنكم، والمراد النهي عن طاعته، وهذا من مبالغة النهي، فالمعنى لا تطيعوا الشيطان في فتنه، فيفتنكم، قال أبو حيان: "أي: لا يستهوينكم، ويغلب عليكم، وهو نهي للشيطان، والمعنى نهيهم أنفسهم عن الإصغاء إليه، والطواعية لأمره". وقال ابن عاشور: "ومثل هذا كناية عن النهي عن فعل، والنهي عن التعرض لأسبابه".

* قوله عز من قائل: {فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها} (طه:16) صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين، ولين عقيدته، فذكر المسبب ليدل على السبب؛ كأنه قيل: فكن شديد الشكيمة، صلب العزيمة، حتى لا يلوح منك لمن يكفر بالبعث، أنه يطمع في صدك عما أنت عليه من العقيدة والإيمان. فحاصل المعنى: لا يصرفنك عن لقاء الله، أو عن الإيمان بإتيان الساعة، أو عن اقامة الصلاة، أو عن العمل للساعة من لا يؤمن بها، فالنهي موجه إلى الكافر من أن يصد موسى عنها، والمراد منه نهيه عليه السلام من أن ينصد عنها بصده؛ تنبيها على أن صاحب الفطرة السليمة يأبى عن الإعراض عنها، ويقتضى الرسوخ في الدين.

* قوله تعالى: {قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده} (النمل:18) هو في الظاهر نهي لسليمان عن الحطم، وهو في الحقيقة نهي للنمل عن الخروج والوقوف على طريق سليمان عليه السلام، أمرتهم بالدخول، ثم نهتهم أن يحطمهم سليمان، فقالت: {لا يحطمنكم سليمان} فلفظ النهي لسليمان، ومعناه للنمل، فالمعنى: يا أيها النمل لا تظهروا بأرض الوادي، فيحطمكم سليمان وجنوده بظهوركم من مساكنكم.

* قوله سبحانه: {فلا يكن في صدرك حرج منه} (الأعراف:2) توجيه النهي إلى (الحرج) للمبالغة، كأنه قال: فلا يحرج صدرك منه، وإنما أنزلناه إليك؛ لتنذر به من بلغه، وذكرى للمؤمنين. فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتوجيه النهي الى (الحرج) للمبالغة، والمعنى: لا تشك في أنه منزل من الله تعالى. أو لا تخف أحدا من الناس، ولا تبال بهم، فنحن الحافظون لك. أو لا تخف ترك القيام بحقوقه، فنحن نيسر لك أمرك، ونوفقك في قصدك.

* قوله عز وجل: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} (الأنفال:25) نهي محض، وهو من حيث اللفظ الظاهر لـ (المصيبة) وفي المعنى للمخاطبين، أي: لا تتعاطوا أسبابا تصيبكم فيها مصيبة لا تخص ظالمكم. قال أبو حيان: "أخرج النهي على جهة إسناده للفتنة، فهو نهي محول، والمراد هنا: لا يتعرض الظالم للفتنة، فتقع إصابتها له خاصة".

* قوله تعالى: {ولا يحزنك قولهم} (يونس:65) النهي في اللفظ للقول، وإنما هو عن السبب المؤدي إلى التأذي بقولهم، والمعنى: لا تعبأ بقولهم، فمن عبأ به آذاه.

* قوله سبحانه: {ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} (آل عمران:176) النهي لـ {الذين يسارعون في الكفر} بحسب الظاهر، أي: لا تتعاط أسبابا يحصل لك بها حزن من جهتهم. قال أبو السعود: "النهي وإن كان بحسب الظاهر نهيا للكفرة عن أن يحزنوه عليه الصلاة والسلام، بمسارعتهم في الكفر، لكنه في الحقيقة نهي له عليه الصلاة والسلام عن التأثر من ذلك، والمبالاة بهم، على أبلغ وجه وآكده؛ فإن النهي عن أسباب الشيء ومباديه المؤدية إليه، نهي عنه بالطريق البرهاني، وقلع له من أصله، وقد يوجه النهي إلى المسبب، ويراد به النهي عن السبب". ومثل هذا قوله تعالى: {ولا يحزنك قولهم إن العزة لله جميعا} (يونس:65).

* قوله عز وجل: {ولا يجرمنكم شنآن قوم} (المائدة:2، 10) النهي وإن كان بحسب الظاهر نهيا لـ (الشنآن) عن كسب الاعتداء للمخاطبين، لكنه في الحقيقة نهي لهم عن الاعتداء على أبلغ وجه وآكده، وهو من توجيه النهي إلى المسبب وإرادة السبب؛ فالمراد النهي عن البغض والعداوة، وجعلها حاكمة على النفس، حاملة لها على الاعتداء والبغي.

* قوله سبحانه مخاطبا آدم عليه السلام وزوجه: {فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى} (طه:117) أي: لا يكونن الشيطان سببا لإخراجكما من الجنة، والمراد نهيهما عن أن يكونا بحيث يتسبب الشيطان إلى إخراجهما منها بالطريق البرهاني.

* قوله تعالى: {أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين} (ن:24) المراد بنهي المسكين عن دخول البستان (الجنة) المبالغة في النهي عن تمكينه من الدخول إليه؛ قال الخطيب الشربيني: "هو نهي للمسكين في اللفظ؛ للمبالغة في نهي أنفسهم، أن لا يدعوه يدخل عليهم، أي: لا يمكنوه من الدخول حتى يدخل".

تلكم جملة من الآيات التي نحسب أنها توضح هذا الأسلوب من الخطاب القرآني، خطاب الظاهر وإرادة المعنى، وهي آيات أريد بها التمثيل والتوضيح، وليس الحصر والاستقراء. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة