- اسم الكاتب:اسلام ويب
- التصنيف:أمثال السنة النبوية
الأمثال النبوية التي تقرب المعاني المعقولة في صورة المحسوسات والمعهودات البشرية، وما تختزنه من مضامين علمية، وتوجيهات مسلكية، يحتاج المسلم إلى تأمل وجوه الشبه المقصودة من تلك التشبيهات البديعة، والوقوف على مقاصدها وغاياتها، والخروج منها بمعان ينتفع بها المسلم في تصوراته النظرية، وتمثلاته الواقعية والعملية، ومن تلك الأمثال ما يمكن أن نسميه بمثال: (النذير العريان).
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى_رضي الله عنه_ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء، فأطاعه طائفة من قومه، فأدلجوا فانطلقوا على مهلتهم، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم، فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق.
قوله: (النذير العريان): مثل سائر يضرب لشدة الأمر ودنو المحذور، وبراءة المحذر عن التهمة، وأصله: أن الرجل إذا رأى العدو وقد هجمت على قومه، وأرادت أن تفاجئهم، وكان يخشى لحوقهم عند لحوقه تجرد عن ثوبه، وجعله على سائر خشبة وصاح؛ ليأخذوا حذرهم ويستعدوا قبل لحوقهم. أ.هـ من تحفة الأحوذي.
قوله: (فالنجاء) بالنصب مفعول مطلق فيه إغراء أي: اطلبوا النجاء بأن تسرعوا الهرب لأنكم لا تطيقون مقاومة ذلك الجيش، (والنجاء) الثاني تأكيد وكلاهما ممدودان.
قوله: (فأدلجوا فانطلقوا على مهلتهم): أما أدلجوا فبإسكان الدال ومعناه: ساروا من أول الليل يقال أدلجت بإسكان الدال إدلاجا كأكرمت إكراما والاسم الدلجة بفتح الدال، فإن خرجت من آخر الليل قلت: ادلجت بتشديد الدال أدلج ادلاجا بالتشديد أيضا والاسم الدلجة بضم الدال، وأما (فادلجوا) بتشديد الدال فلا يستقيم هنا كما رجحه الخطابي: لأن الادلاج بالتشديد هو السير آخر الليل فلا يناسب هذا المقام، والصواب الرواية بإسكان الدال.
قال النووي: أصله أن الرجل إذا أراد إنذار قومه وإعلامهم بما يوجب المخافة نزع ثوبه وأشار به إليهم اذا كان بعيدا منهم؛ ليخبرهم بما دهمهم، وأكثر ما يفعل هذا (ربيئة القوم) وهو طليعتهم ورقيبهم، قالوا: وإنما يفعل ذلك لأنه أبين للناظر، وأغرب وأشنع منظرا، فهو أبلغ في استحثاثهم في التأهب للعدو، وقيل معناه أنا النذير الذي أدركني جيش العدو فأخذ ثيابي فأنا أنذركم عريانا قوله (فالنجاء) ممدود أي: انجوا النجاء أو اطلبوا النجاء. أ.هـ
وشراح الحديث يذكرون قصة تناسب معنى الحديث: أن رجلا من خثعم كان متزوجا في بني زبيد، فأراد بنو زبيد أن يغيروا على قبيلته، فخافوا أن ينذر قومه، فجعلوا عليه حراسا بعد أن خلعوا ثيابه، فصادف منهم غرة وفر إلى أهله فأنذرهم، وكان مما قاله لهم:
أنا المنذر العريان ينبذ ثوبه ... إذا الصدق لا ينبذ لك الثوب كاذب
فكان مثلا لكل أمر تخاف مفاجأته؛ ولكل رجل لا ريب في كلامه.
وقد تضمن هذا المثل النبوي معاني عظيمة:
منها: تصوير المعنى الذهني في صورة المحسوس المشاهد، حتى يترسخ في نفس السامع خطورة المهمة التي يقوم بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن مقام النذارة بالعذاب كالنذارة بقدوم جيش مهلك، بل هو أعظم من ذلك، ولكن لما كانت هذه الصورة المحسوسة ذات بال لدى السامع؛ لكون النفس البشرية تأنس لمبدأ التقريب بما تعهده وتشاهده، فضرب بها النبي صلى الله عليه وسلم المثل لتقريب المعنى مع تفاوت المقامين.
ومنها: كمال نصح النبي صلى الله عليه وسلم وشفقته على أمته، من خلال إيضاح الأمر الذي جاء به، وتحذير الأمة من مغبة التكذيب أو الغفلة عما جاء به من عند الله، وأن عاقبة ذلك الهلاك ولحوق الخسارة، وأن عليهم تلقي البلاغ النبوي بكامل الوعي، وبالغ التصديق، وغاية الامتثال؛ لأنه مخبر عن علم يقين، فقد ارتحل إلى العالم العلوي المغيب، ورأى الجنة والنار، وارتقى حتى تغشته أنوار سدرة المنتهى، وسمع بأذنيه صرير الأقلام، كحال ذلك الذي رأى الجيش بعينه، فلا مجال للتشكيك أو التواني حيال هذه النذارة البالغة.
ومنها: أن النذير العريان قد قام فيه من القرائن والأحوال ما يدعو إلى تصديقه، كونه قد نزع ثيابه من شدة هول ما رأى، وكونه يخبر عما رأى وشاهد بعينيه، وكونه رجلا من قومه له مالهم وعليه ما عليهم، ويقول لهم (النجاء النجاء)، وكانوا يعرفونه ولا يتهمونه في صدق حديثه، ولا جرت عادته بالتعري، فهو منذر لهم بقوله وفعله وحاله، فقطعوا بصدقه، وأيقنوا بخبره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فوق ذلك من بلاغة القول، وإيصال البلاغ، وبلوغ الكعب في صدق الحديث وبذل النصيحة، وأي أحد أنصح وأصدق ممن عاش لهذا البلاغ، وبذل لأجل ذلك نفسه وماله وحياته، وهو مع ذلك مؤيد بالدلائل والحجج الظاهرة، والآيات الباهرة، ما يدعو إلى تصديقه واليقين بما ينذر به.
ومنها: أن الناس أمام الإنذار صنفان: فمن وقر في قلبه صدق البلاغ، وسعى في النجاة على بصيرة وتمهل في السير نجا، وتلك الغاية المرومة، ومن كذب المبلغ وعصى البلاغ صبحه الهلاك، واجتاحه العدو، وطفق يقلب كفيه نادما على أن لم يلحق بركب المصدقين وزمرة الموقنين، فليختر العبد عاقبة النجاة من خلال تصديقه وامتثاله للنذر التي تصل إليه صباحا ومساء، فهذا هو المسلك المقصود من المثل المضروب، قال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق.
وقد ورد في معنى هذا المثل من الأحاديث ما يؤكد معناه، ويقوي مبناه، ومنها حديث جابر _رضي الله عنهما_، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب: احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين؛ ويقرن بين إصبعيه: السبابة والوسطى. رواه مسلم.
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين} [الشعراء: 214] ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف: يا صباحاه فقالوا: من هذا؟، فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادى تخرج من سفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، وفي رواية: أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم مصدقى؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد قال أبو لهب: تبا لك، ما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام، فنزلت: {تبت يدا أبى لهب وتب} [المسد: 1] وقد تب، هكذا قرأها الأعمش يومئذ. رواه البخاري.
ومن خلال هذا المثل النبوي الكريم الذي يلقي بظلاله على واقع الأمة الإسلامية اليوم وهي في أحوج ما تكون إلى (النذير العريان)، فإن أقوم من يقوم بهذه المهمة الخطيرة هم العلماء والدعاة والمصلحون، ولذلك يسعى المفسدون إلى إسكاتهم وتكميم أفواههم الناطقة بالحقيقة، فهم يعلمون أن في بقائهم عافية وقوة لجسد الأمة، فمثل هؤلاء العلماء كمثل (كريات الدم البيضاء) التي تصد الغزاة (الجراثيم)، وتعطل تقدمهم وتكاثرهم، فإذا دخلوا الجسد قاومتهم بشدة واستماتة، حتى الاستشهاد إذا وجب الأمر، ولا مناص إلا أن يرشح الدعاة أنفسهم ومعهم كل عامل للإسلام لهذا المنصب الخطير، منصب (النذير العريان) ؛ فقدوتهم في تلك المهمة هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى قدر ضمور هذا الدور يستفحل الداء، ويتسلط الأعداء، ويتسع الخرق على الراقع، وبالمقابل فإن قيامهم بمهمة الإنذار ومخاطبة الأمة بمحكمات الدين وتقويم المسار فيه تنبيه للغافلين، وإيقاظ للسادرين في الغي ليلحقوا بركب النجاة، والخلاص بأنفسهم من مباغتة العذاب، وحلول النقمة.