- اسم الكاتب:د/ إبراهيم بن محمد الحقيل
- التصنيف:محاسن الأخلاق
الحمد لله اللطيف الخبير؛ ابتلى عباده بالخير والشر، والإيمان والكفر، والطاعة والمعصية؛ لينظر كيف يعملون ( ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ) [المائدة: 48] ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد:
من لطف الله تعالى ورحمته بأمة محمد صلى الله عليه وسلم أنه سبحانه رفع العذاب العام عنها فلا تهلك به، وحفظها من ضعف يطبق عليها حتى يطمع عدو في فنائها وإبادة أفرادها، ولكنه سبحانه قدر عليها اختلاف أفرادها اختلافا يصل إلى القتال فيما بينهم، وهذا أيسر وأهون من العذاب العام، والإبادة التامة؛ كما روى جابر رضي الله عنهما قال: لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم...}، قال: "أعوذ بوجهك"، {أو من تحت أرجلكم}، قال: "أعوذ بوجهك"، فلما نزلت: {أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض} قال: "هاتان أهون أو أيسر". رواه البخاري.
وإنما رفع العذاب العام عن الأمة، ومنع الله تعالى إبادتها على أيدي من سواها ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فاستجاب الله تعالى دعاءه في هذين الأمرين العظيمين، ولم يجبه في منع تسليط بعضها على بعض لحكمة يريدها؛ كما جاء في حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((.... وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا)) رواه مسلم.
وقد دلت الآثار على أن القتل إذا وقع في هذه الأمة فإنه لا يرفع عنها إلى آخر الزمان؛ كما جاء في حديث ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة)) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح.
وكان عبد الله بن سلام رضي الله عنه من علماء أهل الكتاب ثم كان من علماء الصحابة رضي الله عنهم، وكان يقول لما أحاط القتلة بدار عثمان رضي الله عنه: ((لا تسلوا سيوفكم فلئن سللتموها لا تغمد إلى يوم القيامة)).
وقد وقع السيف في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بمقتل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلم يرفع إلى يومنا هذا، ولن يرفع إلى آخر الزمان.
ولما كان قضاء الله تعالى في هذه الأمة أن السيف إذا سل فيها لا يغمد، وأن الفتن إذا اشتعلت لا تطفأ، وسيسلط أفراد الأمة بعضهم على بعض، ويكون بأسهم بينهم شديدا؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم من شفقته على أمته، ونصحه لها قد بين لنا المخرج من هذه الفتن، ودلنا على السبيل الأمثل في التعامل معها؛ وذلك باجتنابها، واعتزال أهلها، وكف اليد واللسان عن العمل فيها، وجاء في ذلك أحاديث كثيرة، منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي فيها خير من الساعي ومن يشرف لها تستشرفه ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به)) رواه الشيخان.
واعتزال الفتنة، والهرب من أهلها أصل عظيم من أصول هذا الدين؛ لمصلحة العبد وصيانة دينه، وسلامة يده ولسانه من دماء المسلمين وأعراضهم، ولمصلحة الأمة بإخماد الفتنة، وتقليل الخسائر فيها؛ كما في حديث كرز بن علقمة الخزاعي رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، هل للإسلام من منتهى؟ قال: "نعم، أيما أهل بيت من العرب أو العجم أراد الله بهم خيرا أدخل عليهم الإسلام"، قال: ثم مه؟ قال: "ثم تقع الفتن كأنها الظلل"، قال: كلا والله إن شاء الله، قال: "بلى والذي نفسي بيده، ثم تعودون فيها أساود صبا يضرب بعضكم رقاب بعض". رواه أحمد. وصححه ابن حبان وزاد في روايته: "فخير الناس يومئذ مؤمن معتزل في شعب من الشعاب يتقي الله ويذر الناس من شره".
وأعظم الفتن فتنة الدجال، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:"من سمع بالدجال فلينأ منه فان الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فلا يزل به لما معه من الشبه حتى يتبعه" رواه أحمد.
وهذا يدل على أن الفرار من الفتنة واعتزال أهلها من أصول هذا الدين العظيم.
وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالبادية هربا من الفتنة مع ما في البادية من الجفاء، وتعطيل الدعوة والحسبة، والتخلف عن الجمع والجماعات، ولكن ذلك أهون من الانغماس في الفتنة، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن" رواه البخاري وبوب عليه فقال رحمه الله تعالى: ((باب من الدين الفرار من الفتن)).
بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا ينجو من الفتنة إلا مرابط في الثغور، أو معتزل في البادية؛ كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أظلتكم فتن كقطع الليل المظلم أنجى الناس منها صاحب شاهقة يأكل من رسل غنمه أو رجل من وراء الدروب آخذ بعنان فرسه يأكل من فيء سيفه هذا" رواه الحاكم وصححه.
وقد لا يكون للعبد حال الفتنة غنم ولا إبل يفر بها من الفتنة إلى البادية فأوصاه النبي صلى الله عليه وسلم بأن يلزم بيته، ويتخلص من سلاحه؛ لئلا يضطر إلى استخدامه ضد مسلم فيقتله فيبوء بإثمه، كما جاء في حديث أبي موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الفتنة: "كسروا فيها قسيكم وقطعوا فيها أوتاركم والزموا فيها أجواف بيوتكم وكونوا كابن آدم" رواه الترمذي وقال: حسن غريب صحيح. وفي رواية لأبي داود: قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "كونوا أحلاس بيوتكم".
وروى محمد بن مسلمة رضي الله عنه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ستكون فتنة وفرقة واختلاف فإذا كان كذلك فأت بسيفك أحدا فاضربه حتى ينقطع ثم اجلس في بيتك حتى تأتيك يد خاطئة أو منية قاضية" رواه ابن ماجه.
وقد يكره المسلم على الخروج من منزله ليحضر الصف في قتال الفتنة، فإن خرج وقف في الصف، وكف يده عن القتال؛ كما في حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها ستكون فتن، ألا ثم تكون فتنة القاعد فيها خير من الماشي فيها والماشي فيها خير من الساعي إليها، ألا فإذا نزلت أو وقعت فمن كان له إبل فليلحق بإبله ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه ومن كانت له أرض فليلحق بأرضه"، قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت من لم يكن له إبل ولا غنم ولا أرض، قال: "يعمد إلى سيفه فيدق على حده بحجر ثم لينج إن استطاع النجاء، اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت"، قال: فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن أكرهت حتى ينطلق بي إلى أحد الصفين أو إحدى الفئتين فضربني رجل بسيفه أو يجئ سهم فيقتلني قال: "يبوء بإثمه وإثمك ويكون من أصحاب النار" رواه مسلم.
وهذا الحديث يدل على الكف عن القتال في الفتنة ولو أكره عليه، فإن دخل عليه مسلم في بيته يريد مقاتلته فالأفضل أن يكف يده عن مقاتلته ولو أدى ذلك إلى قتله؛ فقتله خير له من الولوج في الفتنة والتلطخ بدم مسلم، كما جاء في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن دخل علي بيتي وبسط يده ليقتلني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كن كابني آدم" رواه أبو داود.
وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في قتال الفتنة:"اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك"، قال: فإن لم أترك؟ قال: "فائت من أنت منهم فكن فيهم"، قال: فآخذ سلاحي؟ قال: "إذن تشاركهم فيما هم فيه ولكن إن خشيت أن يروعك شعاع السيف فألق طرف ردائك على وجهك حتى يبوء بإثمه وإثمك" رواه أحمد.
قد يظن بعض الناس أن هذه الأحاديث التي تنهى عن الدخول في الفتنة، وتأمر باعتزالها وأهلها تكرس الجبن والخور، وتعين الظالم على ظلمه، وتكرس الاستبداد السياسي، وهو ما يتهم به الإسلام بألسن خصومه وأعدائه وأقلامهم.
وقد يظنون أن أحاديث العزلة في الفتنة، والتخلص من السلاح، والبعد عن كلا الطائفتين، ولزوم الدار، وإغلاق الباب تتعارض مع أحاديث الدفاع عن النفس.
وهذا ظن خاطئ، وفهم ناقص؛ ذلك أن قتال الفتنة ليس فيه خاسر ورابح، ولا منتصر ومهزوم، بل القاتل والمقتول فيه خاسران مهزومان، ولا رابح إلا من اعتزل الفريقين، وكف عن قتال المسلمين.
وهذا من حكمة الشارع الحكيم؛ فإن الاستسلام في قتال الفتنة سبب لحقن الدماء المعصومة وتقليلها، وبه تخمد الفتنة، وتخرس ألسن من يشعلونها وينفخون فيها، بخلاف الإصرار على القتال فإنه يزيد الفتنة اشتعالا وانتشارا، وبه يكثر القتلى، وتستنزف الدماء؛ فكان المعتزل والمستسلم فيها خيرا من المقاتل؛ فإنه ضحى بدمه لحقن دماء إخوانه، وقدم نفسه فداء لأمته، قال اﻹمام أحمد رحمه الله : " واﻹمساك فى الفتنة سنة ماضية ، واجب لزومها ، فإن ابتليت فقدم نفسك دون دينك ، وﻻ تعن على فتنة بيد ، وﻻ لسان ؛ ولكن اكفف يدك ، ولسانك ، وهواك ، والله المعين".
وقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال: "ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين" رواه البخاري. فوقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ وضع الحسن رضي الله عنه السلاح، وترك القتال، وبايع معاوية رضي الله عنه؛ فاجتمعت الأمة بعد الافتراق، وحقنت الدماء، وسمي ذلك العام (عام الجماعة) وكان كف الحسن رضي الله عنه عن القتال خيرا له ولجميع المسلمين.
ولقد كان العرب في جاهليتهم يفخرون بوضع السلاح عن قتال الإخوان، ويحضون على الصلح بين القبائل، ويمتدحون من بذل ماله أو دمه في سبيل إغماد السيوف، وحقن الدماء، واجتماع القلوب.
ولما وقعت حرب البسوس بين بني وائل بكر وتغلب، أرسل الحارث بن عباد ابنه بجيرا ليقتل بدم كليب لتحقن بدمه دماء القبيلتين فقتله أبو ليلى المهلهل، وسمع أبوه بمقتله وظن أنه قد قتله بأخيه كليب ليصلح بين الحيين فقال: ((نعم القتيل قتيل أصلح بين ابني وائل)).
وجمهور الصحابة رضي الله عنهم اجتنبوا الفتن، وهم الذين رووا أحاديثها، وأحاديث اعتزالها وفقهوها؛ فعصمهم الله تعالى بعلمهم بها وتطبيقهم لها من الوقوع فيها.
قال التابعي الجليل محمد بن سيرين رحمه الله تعالى: ((هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف فما خف فيها منهم مائة بل لم يبلغوا ثلاثين)).
وكان ابن عمر رضي الله عنهما ممن اعتزل الفتن، وكان يصلي مع ابن الزبير رضي الله عنهما في الحرم، فإذا فاتته الصلاة مع ابن الزبير فسمع مؤذن الحجاج صلى مع الحجاج فقيل له: ((أتصلي مع ابن الزبير ومع الحجاج؟ فقال: إذا دعونا إلى الله عز وجل أجبنا، وإذا دعونا إلى الشيطان تركناهم)).
والذين شاركوا فيها من الصحابة رضي الله عنهم كانوا سراة الناس، وقادة الأمة في وقتهم، فاضطروا إلى ذلك اضطرارا؛ ابتلاء من الله تعالى وامتحانا، واجتهادا منهم رضي الله تعالى عنهم في إحقاق الحق، وإبطال الباطل، ومن عافاهم الله تعالى من الابتلاء بقيادة الأمة اعتزلوا فسلموا، وهذا من فقههم وورعهم رضي الله عنهم، فمن ابتغى السلامة سلك مسلكهم، واقتفى أثرهم، وجانب الفتن ومظانها، واعتزل أهلها، فسلم له دينه كما سلمت له دنياه {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}.
نسأل الله تعالى أن يحفظنا بحفظه، وأن يعافينا من التلبس بالفتن، وأن يرزقنا اتباع الحق { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب } [آل عمران: 8] كما نسأله تعالى أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، وأن يجنبها الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجمع القلوب على ذكره وشكره وحسن عبادته، إنه سميع مجيب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(بتصرف يسير جدا).