الحنفاء قبل البعثة

0 1892

الحنف لغة الميل، قال في القاموس: "والحنيف كأمير الصحيح الميل إلى الإسلام الثابت عليه".
وقال الراغب في المفردات: "الحنف هو ميل عن الضلال إلى الاستقامة، والجنف ميل عن الاستقامة إلى الضلال".
وقد وردت اللفظة في القرآن الكريم اثنتا عشرة مرة.
قال القرطبي في تفسيره (2:139): "حنيفا" مائلا عن الأديان المكروهة إلى الحق دين إبراهيم، وسمي إبراهيم حنيفا لأنه حنف إلى دين الله وهو الإسلام. وهذا المعنى نجده عند ابن عطية (2:367).

من هم الحنفاء:
أما "الحنفاء" فمن خلال ما ذكره ابن كثير في البداية والنهاية، وما جاء في سيرة ابن اسحاق واختصارها لابن هشام، وكذلك ما جاء في كتب التاريخ والتراجم، فيمكن أن نقول:
إن الحنفاء هم أناس رفضوا عبادة الأوثان وتركوا ما عليه قومهم من عبادة الأصنام، أو عبادة غير الواحد الديان، وراحوا يبحثون عن الدين الحق، وكانوا يتطلعون ـ رغم اندراس الدين ـ نحو الحق؛ لذا وجدنا بعضهم يعتنق النصرانية، وبعضهم يتمسك ببقايا دين إبراهيم عليه السلام.
قال الدكتور الصلابي في كتابه "السيرة النبوية": (وكان يوجد بعض الأفراد من الحنفاء الذين يرفضون عبادة الأصنام، وما يتعلق بها من الأحكام كالنحائر وغيرها" "السيرة النبوية:23".

أما عددهم وتاريخ ظهور كل واحد، فتحديد ذلك من الصعوبة بمكان. وقد أورد الدكتور جواد علي قائمة بأسماء "الحنفاء" فذكر منهم: "قس ابن ساعدة الأيادي - زيد بن عمرو بن نفيل - أمية بن أبي الصلت - أرباب ابن رئاب - سويد بن عامر المصطلقي - أسعد أبو كرب الحميري - وكيع بن سلمة الأيادي - عمير بن جندب الجهمي - عدى بن العبادي - أبو قيس صرمة بن أبي أنس - سيف بن ذي يزن - ورقة بن نوفل - ....... وزهير بن أبي سلمى - خالد بن سنان العبسي - عبد الله القضاعي - عبيد بن الأبرص - كعب بن لؤي بن غالب." "تاريخ العرب قبل الإسلام" للدكتور جواد علي (370:5).

أشهر المتحنفين:
وقد ورد في كتب السير والتاريخ حديث عن بعض من عاش إلى زمن البعثة أو قبيلها. ومنهم من عاش إلى زمن النبي صلى الله عليه سلم وآمن به، منهم من غلبت عليه شقوته فكفر. وأشهر هؤلاء:

زيد بن عمرو بن نفيل:
كان من أهل الفترة الذين كانوا على الحنيفية؛ ففي صحيح البخاري عن ابن عمر: [أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويتبعه، فلقي عالما من اليهود، فسأله عن دينهم، فقال: إني لعلي أن أدين دينكم فأخبرني، فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله! قال زيد: ما أفر إلا من غضب الله، ولا أحمل من غضب الله شيئا أبدا، وأنى أستطيعه! فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا، قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله، فخرج زيد فلقي عالما من النصارى، فذكر مثله، فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله! قال: ما أفر إلا من لعنة الله، ولا أحمل من لعنة الله، ولا من غضبه شيئا أبدا، وأنى أستطيع! فهل تدلني على غيره؟ قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفا، قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يكن يهوديا، ولا نصرانيا، ولا يعبد إلا الله، فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم - عليه السلام - خرج، فلما برز رفع يديه، فقال: اللهم إني أشهد أني على دين إبراهيم](البخاري:3616).

وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة، فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه. وكان يعيب على قريش ذبائحهم ثم يقول: خلقها الله، وأنزل من السماء ماء، وأنبت لها الأرض ثم يذبحوها على غير اسم الله](صحيح البخاري: كتاب مناقب الأنصار: ح 3614).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [دخلت الجنة فرأيت لزيد بن عمرو بن نفيل درجتين](رواه ابن عساكر، وحسنه الألباني).
وعن سعيد بن زيد قال: [سألت أنا، وعمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد بن عمرو، فقال: يأتي يوم القيامة أمة وحده](رواه أبو يعلى وإسناده حسن).

قس بن ساعدة الإيادي:
وممن كان يدين بشريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، قس بن ساعدة الإيادي، فقد كان خطيبا، حكيما، عاقلا، له نباهة، وفضل، وكان يدعو إلى توحيد الله، وعبادته، وترك عبادة الأوثان، كما كان يؤمن بالبعث بعد الموت، وقد بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم.. فقد روى أبو نعيم في دلائل النبوة عن ابن عباس قال: إن قس بن ساعدة كان يخطب قومه في سوق (عكاظ) فقال في خطبته: سيعلم حق من هذا الوجه وأشار بيده إلى مكة، قالوا: وما هذا الحق؟ قال: رجل من ولد لؤي بن غالب يدعوكم إلى كلمة الإخلاص، وعيش الأبد، ونعيم لا ينفد، فإن دعاكم فأجيبوه، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه لكنت أول من يسعى إليه وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه مات قبل البعثة.
ومما كان ينشده من شعره:
في الذاهبين الأولين * من القرون لنا بصائر
لــما رأيــت مواردا * للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها * يمضي الأصاغر والأكابر
لا من مضى يأتي إليك * ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محالة * حيث صار القوم صائر

السيرة النبوية لأبي شهبة: (1: 81)، وانظر السيرة النبوية للصلابي :33).

ورقة بن نوفل:
وورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة أم المؤمنين وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من أوائل المصدقين برسالة النبي عليه الصلاة والسلام، حين أتت إليه خديجة برسول الله بعد أن جاءه جبريل فأخبره أنه أتاه الناموس الذي أتى موسى يعني جبريل، والقصة قد وردت في صحيح البخاري في كتاب بدء الوحي، عن عائشة رضي الله عنها وهي تحكي كيف كان بدء الوحي. قالت: [فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، ابن عم خديجة، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى. فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أومخرجي هم؟ قال: نعم! لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي](صحيح البخاري:4).

وجاء في السيرة النبوية لابن هشام: [ثم انطلقت (يعني خديجة) إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن عمها، وكان ورقة قد تنصر وقرأ الكتب، وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه رأى وسمع؛ فقال ورقة بن نوفل: قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده، لئن كنت صدقتيني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له: فليثبت.
فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة بن نوفل، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف، صنع كما كان يصنع بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة فقال: يا ابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال له ورقة: والذي نفسي بيده، إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبنه ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتلنه، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه، ثم أدنى رأسه منه، فقبل يافوخه، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله.

وروى الترمذي عن عائشة قالت: [سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ورقة فقالت له خديجة: إنه كان صدقك، وإنه مات قبل أن تظهر، فقال: رأيته في المنام وعليه ثياب بيض، ولو كان من أهل النار لرأيت عليه ثيابا غير ذلك].
وعن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [رأيت لورقة جنة أو جنتين].
وعلى هذا فيكون ورقة رضي الله عنه هو أول من صدق بعد خديجة رضي الله عنها.

سويد بن صامت الأوسي
وهو سويد بن الصامت بن عطية بن حوط بن حبيب بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وأمه: ليلى بنت عمرو النجارية أخت سلمى بنت عمرو أم عبد المطلب بن هاشم. فسويد هذا ابن خالة عبد المطلب جد رسول الله.
قال محمد بن إسحاق: "وكان رسول الله على ذلك من أمره كلما اجتمع الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الله من الهدى والرحمة، ولا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف، إلا تصدى له ودعاه إلى الله تعالى، وعرض عليه ما عنده. فقدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا - أو معتمرا - وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره وشرفه ونسبه، فتصدى له رسول الله حين سمع به فدعاه إلى الله والإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الذي معك؟ قال: مجلة لقمان - يعني: حكمة لقمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرضها علي، فعرضها عليه. فقال: إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا؛ قرآن أنزله الله علي هو هدى ونور. فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلى الإسلام. فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول حسن. ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج. فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قتل وهو مسلم، وكان قتله قبل بعاث. وقد رواه البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن ابن إسحاق بأخصر من هذا.

فهؤلاء الذين سبقوا كلهم تحنفوا، ومن أدرك منهم رسول الله آمن به.. وقد كان هناك ممن تحنف وبحث عن الدين الحق من كفر برسول الله عند مبعثه ومن هؤلاء المخذولين:
أبو عامر بن صيفي:
كان يدعى بأبي عامر الراهب فسماه النبي صلى الله عليه وسلم أبو عامر الفاسق، وقد ورد ذكره في كتاب أسد الغابة لابن الأثير، والإصابة لابن حجر العسقلاني، وذلك عند ترجمتهما لابنه حنظلة الغسيل، فقالا ما خلاصته: اسمه عمرو ويقال عبد عمرو بن صيفي بن زيد بن أمية بن ضبيعة، من الأوس من بني عمرو بن عوف، كان في الجاهلية يعرف بالراهب، وكان يذكر البعث ودين الحنيفية، وكان أبو عامر وعبد الله بن أبي بن سلول قد حسدا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما من الله به عليه، فأما عبد الله بن أبي فأضمر النفاق، وأما أبو عامر فخرج إلى مكة، ثم قدم مع قريش يوم أحد محاربا، فسماه رسول الله: الفاسق. وأقام بمكة فلما فتحت هرب إلى هرقل والروم، فمات كافرا هنالك سنة تسع، وقيل: سنة عشر.

قال الإمام القرطبي: (كان يلبس المسوح في الجاهلية، ودخل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقال: يا محمد ما هذا الذي جئت به؟ قال: "جئت بالحنيفية دين إبراهيم، قال فاني عليها. فقال: صلى الله عليه وسلم: لست عليها؛ لأنك أدخلت فيها ما ليس منها، فقال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طريدا وحيدا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم، أمات الله الكاذب منا كذلك"، فخرج أبو عامر إلى الشام، ومر إلى قيصر وكتب إلى المنافقين (يعني أصحاب مسجد الضرار): استعدوا فإني آتيكم من عند قيصر بجند لنخرج محمدا من المدينة، فمات بالشام وحيدا)(القرطبي 320:7).

أمية بن أبي الصلت:
وأما أمية بن أبي الصلت فقد قرأ الكتب وعلم أن الله مرسل رسولا فتمنى أن يكون ذلك الرسول، فلما أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم حسده وكفر به. وهو الذي قيل فيه: "آمن شعره وكفر قلبه".
قال الحافظ ابن عساكر: هو أمية بن أبي الصلت عبد الله بن أبي ربيعة بن عوف.. أبو عثمان، ويقال: أبو الحكم الثقفي، شاعر جاهلي قدم دمشق قبل الإسلام. وقيل: إنه كان مستقيما، وإنه كان في أول أمره على الإيمان، ثم زاغ عنه.

وقد كان يؤمن بالبعث والحساب والجنة والنار، فقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية، في قصة طويلة له مع أبي سفيان، أن أبا سفيان رآه حزينا فسأله عن سبب ذلك، فقال أمية: إنما ذلك لشيء وجلت منه من منقلبي، قلت: وهل لك من منقلب؟ قال: أي والله، لأموتن ثم لأحيين، قال: قلت: هل أنت قابل أمانتي؟ قال: على ماذا؟ قلت: على أنك لا تبعث ولا تحاسب، قال: فضحك، ثم قال: بلى! والله يا أبا سفيان لنبعثن، ثم لنحاسبن، وليدخلن فريق الجنة، وفريق النار.

وكان قد ذكر لأبي سفيان أن نبيا سيخرج:
قال أبو سفيان: فضرب الدهر ضربه، فأوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجت في ركب من قريش أريد اليمن في تجارة، فمررت بأمية فقلت له كالمستهزئ به: يا أمية قد خرج النبي الذي كنت تنعته. قال: أما إنه حق فاتبعه. قلت: ما يمنعك من اتباعه؟ قال: ما يمنعني إلا الاستحياء من نساء ثقيف، إني كنت أحدثهن أني هو، ثم يرينني تابعا لغلام من بني عبد مناف.

فسبحان من يهدي من يشاء ويعصم ويجتبي فضلا، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلا.. اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة