فلتقم طائفة منهم معك

0 659

من آيات الأحكام المتعلقة بأحوال الجهاد قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا} (النساء:102). وقفتنا في هذه السطور مع جملة من الأحكام التي تضمنتها هذه الآية، وذلك في ثماني مسائل:

المسألة الأولى: قوله سبحانه: {وإذا كنت فيهم} هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولمن بعده من أهل الأمر، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء، وخالف أبو يوسف وابن علية، فقالا: لا تصلى صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا الخطاب خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، قالا: ولا يلحق غيره به، لما له صلى الله عليه وسلم من المزية العليا، والخصائص الفضلى.

المسألة الثانية: أجمع المسلمون على وجوب الصلاة حال الخوف، وجوازها كما شرع الله سبحانه في كتابه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا ما يحكى عن طائفة من فقهاء الشام من المالكية، أنه يجوز تأخيرها عن وقت الخوف إلى وقت الأمن؛ كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق. وجمهور أهل العلم على أنه منسوخ بصلاة الخوف؛ لأن صلاة الخوف أول ما شرعت بذات الرقاع، وهي أول سنة خمس قبل خيبر، وأن خيبر في سنة سبع، هكذا ذكره النووي في "روضة الطالبين".

المسألة الثالثة: صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بصفات مختلفة بحسب اختلاف المواطن والأحوال، يمكن جمعها بأربع صفات:

الصفة الأولى: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان. روى أبو دواد عن أبي عياش الزرقي رضي الله تعالى عنه: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غفلة، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر، فلما حضرت صلاة العصر، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبل القبلة، والمشركون أمامه، فصف خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم صف واحد، وصف بعد ذلك صف آخر، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وركعوا جميعا، ثم سجد الصف الذي يليه، وقام الآخر يحرس لهم، فلما صلى هؤلاء السجدتين، وقاموا، سجد الآخرون الذين كانوا خلفه، ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدم الصف الآخر إلى مقام الصف الأول، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركعوا جميعا، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم، فلما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه، سجد الآخرون، ثم جلسوا جميعا، ثم سلم بهم جميعا. ورواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما بلفظ قريب.

وروى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحو حديث جابر وأبي عياش، إلا أنه ليس في روايته تقدم الصف الثاني، وتأخر الصف الأول.

وبهذه الروايات أخذ الشافعي، والثوري، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، وجماعة من أصحاب مالك؛ والعمل بظاهره جائز عند جمهور أهل العلم.

الصفة الثانية: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع من نخل أرض غطفان، وفيها ثلاث روايات:

الأولى: رواية صالح بن خوات بن جبير عن سهل بن أبي حثمة، قال: إن طائفة صفت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وصفت طائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائما، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا، وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم. والحديث في "الصحيحين".

الثانية: رواية عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف في بعض أيامه، فقامت طائفة معه، وطائفة بإزاء العدو، فصلى بالذين معه ركعة، ثم ذهبوا، وجاء الآخرون، فصلى بهم ركعة، وقضت الطائفتان ركعة ركعة. رواه مسلم.

الثالثة: روى أبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بطائفة، وطائفة مستقبلي العدو، فصلى بالذين معه ركعة وسجدتين، وانصرفوا، ولم يسلموا، فوقفوا بإزاء العدو، ثم جاء الآخرون فقاموا معه، فصلى بهم ركعة، ثم سلم، فقام هؤلاء فقضوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا، وذهبوا، فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو، ورجع أولئك إلى مراتبهم، فصلوا لأنفسهم ركعة، ثم سلموا.

وقد أخذ أبو حنيفة بهذه الرواية، إلا أنه قال: تتم الطائفة الثانية الركعة التي عليها بعد أن تذهب إلى وجه العدو، وتأتي الطائفة الأولى وتتم ركعتها، ثم تذهب إلى مقام العدو، ثم تأتي الطائفة الثانية، فحينئذ تتم ركعتها. وبرواية صالح بن خوات أخذ جمهور أهل العلم، ورجحوا بأنها أحوط للصلاة؛ لقلة الأفعال فيها، وأنها أبلغ في الحذر، وأقوى في المكيدة، وأكثر موافقة للقرآن. ولهذا قال مالك: وهذا أحسن ما سمعت في صلاة الخوف. إلا أن مالكا رواه في "الموطأ" موقوفا على سهل بن أبي حثمة، وفيه أنه لما قضى الركعة بالطائفة الثانية سلم، ولم ينتظرهم حتى يفرغوا من الصلاة.

واختار الشافعي العمل بالرواية المسندة، وهي أن ينتظرهم، ويسلم بهم؛ لأنه أقوى؛ لاتصاله، واختاره أحمد مع إجازته لجميع صلاة الخوف، ولمالك قول كمذهب الشافعي.

الصفة الثالثة: صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ببطن نخل في غزوة ذات الرقاع أيضا؛ روى مسلم عن جابر رضي الله عنهما، (أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعتين، ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات، وصلى بكل طائفة ركعتين). وفيه أن الطائفة الثانية كانت مفترضين خلف متنفل، وبه أخذ الشافعي.

الصفة الرابعة: وهي صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بذي قرد. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة، وبالأخرى ركعة، ولم يقضوا شيئا. رواه النسائي، وأحمد، والحاكم، وقال: "صحيح الإسناد". وقال الشافعي: "وإنما تركناه؛ لأن جميع الأحاديث في صلاة الخوف مجتمعة على أن على المأمومين من عدد الصلاة ما على الإمام، وكذلك أصل الفرض في الصلاة على الناس واحد في العدد؛ ولأنه لا يثبت عندنا مثله لشيء في بعض إسناده".

المسألة الرابعة: قال القنوجي: "وقد وردت صلاة الخوف في السنة المطهرة على أنحاء مختلفة، وصفات متعددة، وكلها صحيحة مجزية، من فعل واحدة منها فقد فعل ما أمر به، ومن ذهب من العلماء إلى اختيار صفة دون غيرها، فقد أبعد عن الصواب. وأوضح هذا الشوكاني في "نيل الأوطار" وفي "السيل الجرار".

المسألة الخامسة: قال في ابن قدامة في "المغني": "ويجوز أن يصلي صلاة الخوف على كل صفة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أحمد: كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز. وقد اختار الإمام أحمد حديث سهل بن أبي حثمة، وقد رواه الجماعة". وقال الخطابي: "صلاة الخوف أنواع، صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة، وأشكال متباينة، يتوخى فيها كلها ما هو أحوط للصلاة، وأبلغ في الحراسة".

المسألة السادسة: قوله عز وجل: {وليأخذوا أسلحتهم} أمر الله سبحانه عباده بالحذر وأخذ السلاح، والأمر من حيث الأصل يفيد الوجوب؛ وقد اختلف أهل العلم في المجاهد، هل يجب عليه حمل السلاح حال الصلاة؟ فقال أبو حنيفة، والشافعي -في أحد قوليه، وبه أخذ مالك وأحمد-: لا يجب، ويكون الضمير في قوله تعالى: {فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم} عائدا على الضمير الذي قبله، والمراد به الطائفة التي لم تصل، قالوا: لأن الطائفة المصلية لا تحارب، وأن حمل السلاح في الصلاة -كما قال الحنفية- يفسد الصلاة. وقال أهل الظاهر، والشافعي في قوله الآخر: المراد بالأمر الطائفة المصلية، قالوا: لأن الطائفة القائمة بإزاء العدو، لا بد أن تكون قائمة بأسلحتها، وإنما يحتاج إلى الأمر بذلك، من كان في الصلاة؛ لأنه يظن أن ذلك ممنوع من حال الصلاة، فأمره الله بأن يكون آخذا لسلاحه، أي غير واضع له. وقال الضحاك في قوله تعالى: {وخذوا حذركم} يعني: تقلدوا سيوفكم؛ فإن ذلك هيئة الغزاة.

قال المفسرون: وليس المراد بقوله جل شأنه: {وليأخذوا} (الأخذ) باليد، بل المراد أن يكونوا حاملين لسلاحهم؛ ليتناولوه من قرب إذا احتاجوا إليه، وليكون ذلك أقطع لرجاء عدوهم من إمكان فرصة فيهم. وجوز بعض أهل العلم أن يكون ذلك أمرا للطائفتين جميعا؛ لأنه أرهب للعدو.

المسألة السابعة: قوله تعالى: {فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم} أي: فإذا سجد القائمون في الصلاة، فلتكن الطائفة القائمة بإزاء العدو من وراء المصلين. ويحتمل أن يكون المعنى: فإذا سجد المصلون مع الإمام، أتموا الركعة، تعبيرا بالسجود عن جميع الركعة، أو عن جميع الصلاة، ثم لينصرفوا بعد الفراغ من الصلاة إلى مواجهة العدو للحراسة.

المسألة الثامنة: قال القرطبي: "وفي هذه الآية أدل دليل على تعاطي الأسباب، واتخاذ كل ما ينجي ذوي الألباب، ويوصل إلى السلامة، ويبلغ دار الكرامة".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة