لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا هاء وهاء

0 2378


ورد في السنة النبوية أحاديث تنظم المعاملات المالية بين الناس، وتبين لهم ما يحل وما يحرم في بيعهم ومعاملاتهم، ومن ذلك حديث النهي عن الربا في الأصناف الستة المذكورة، وهو من أصول الأحكام التي يكثر الاستناد إليها في ضبط الربويات، وقد وقف الشراح فيه على علله ومقاصده، واختلفوا في فقهه بناء على اختلافهم في تعليله.

والحديث في صحيح مسلم وغيره بروايات كثيرة منها: عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لا تبيعوا الذهب بالذهب، إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق، إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز.

قوله: لا تشفوا بعضها على بعض بضم التاء، أي: لا تزيدوا وتفضلوا، والشف بالكسر: الزيادة والنقصان، وهو من الأضداد.

قوله: ولا تبيعوا منها غائبا بناجز قال النووي: المراد بالناجز الحاضر وبالغائب المؤجل وقد أجمع العلماء على تحريم بيع الذهب بالذهب أو بالفضة مؤجلا وكذلك الحنطة بالحنطة أو بالشعير، وكذلك كل شيئين اشتركا في علة الربا. أ.هـ.

وفي رواية في صحيح مسلم أيضا عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد، أو استزاد، فقد أربى، إلا ما اختلفت ألوانه

قوله: فقد أربى معناه: فقد فعل الربا المحرم، فدافع الزيادة وآخذها عاصيان مربيان وفي رواية في صحيح مسلم أيضا عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد، أو ازداد، فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء.
قوله: إلا ما اختلفت ألوانه أي أجناسه كالذهب بالتمر، أو التمر بالشعير، فإنه لا يشترط فيهما المماثلة وإنما يشترط المقابضة كما في رواية: فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد.

هذا الحديث برواياته نص في جريان الربا في ستة أصناف هي (الذهب، والفضة، والتمر، والزبيب، والشعير، والملح)، فهل الحكم فيها لخصوصها، أم أنه من باب التنصيص على بعض أفراد العام الذي لا يمنع من دخول غيره في الحكم؟

فأهل الظاهر خصوا الحكم بالمذكورات؛ بناء على مذهبهم في نفي القياس، ومنع الإلحاق بالعلة، وأما جمهور الفقهاء ومنهم الأئمة الأربعة فإنهم تعاملوا مع الحديث معاملة معقول المعنى، فاتفقوا على تعليله، وإن كانوا اختلفوا في تعيين العلة.
 

قال النووي: وأجمع العلماء على جواز بيع الربوي بربوي لا يشاركه في العلة متفاضلا ومؤجلا، وذلك كبيع الذهب بالحنطة، وبيع الفضة بالشعير وغيره من المكيل ، وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع الربوي بجنسه وأحدهما مؤجل، وعلى أنه لا يجوز التفاضل إذا بيع بجنسه حالا كالذهب بالذهب، وعلى أنه لا يجوز التفرق قبل التقابض إذا باعه بجنسه أو بغير جنسه مما يشاركه في العلة كالذهب بالفضة، والحنطة بالشعير وعلى أنه يجوز التفاضل عند اختلاف الجنس إذا كان يدا بيد، كصاع حنطة بصاعي شعير، ولا خلاف بين العلماء في شيء من هذا. أ.هـ.

الخلاف في تعيين العلة:

اختلف الفقهاء في استنباط العلة التي لأجلها حرم التفاضل والنسيئة في الأصناف المذكورة في الحديث، سيما الأصناف الأربعة غير الذهب والفضة، فقال بعضهم إن العلة هي التقدير، فكل موزون أو مكيل فإنه يجري فيه الربا وهذا مذهب أبي حنيفة.
وقال آخرون: العلة في الذهب والفضة هي الثمينة والعلة في الأصناف الأخرى هي الاقتيات والادخار، وهذا مذهب الإمام مالك.
ومذهب الشافعي كمذهب مالك في الذهب والفضة، وأما في بقية الأصناف فقالوا: العلة فيها هي الطعم، فكل مطعوم فهو ربوي.

مناقشة التعليلات:

أما تعليل الحنفية بالوزن فقد أخذوه من بعض ألفاظ الحديث كقوله: وزنا بوزن، وقوله:كيلا بكيل، وقد رد عليهم بأن هذه الألفاظ لم ترد على سبيل التعليل، وإنما على سبيل بيان ما تنضبط به تلك الأصناف للوصول إلى المماثلة، كقوله مثلا بمثل.

ومما يناقش به أصحاب هذا التعليل: أن الوزن والكيل ليسا وصفين ملازمين، وإنما هي أمور عارضة، فلا يعلل بها، ولذا يوزن الشيء في بلد ويكال في بلد آخر.

ومما يقدح بعلة الوزن الانتقاض في بعض الصور، كما قال البغوي: والدليل على أن الوزن لا يجوز أن يكون علة اتفاق أهل العلم على أنه يجوز إسلام الدراهم والدنانير في غيرهما من الموزونات، ولو كان الوزن علة لكان لا يجوز، لأن كل مالين اجتمعا في علة الربا لا يجوز إسلام أحدهما في الآخر.

وأما تعليل المالكية بالاقتيات والادخار في الأصناف الأربعة قالوا: لأن الاقتيات والادخار هو الوصف الجامع لها، ورد بأن التعليل بالادخار منتقض بالرطب، فإنه يجري فيه الربا وليس مدخرا.

وأما تعليل الشافعية بالطعم فقد أخذوه من لفظ الطعام الوارد في بعض الروايات كما في صحيح مسلم: الطعام بالطعام مثلا بمثل، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم علق الحكم بالطعام وهو اسم مشتق من الطعم، وهذا مسلك من مسالك استنباط العلة، ورد عليهم بما رد به على المالكية بأن لفظ الطعام لا علاقة له بالعلية، بل هو كقوله: وزنا بوزن، وكقوله: كيلا بكيل.
وكذلك يقال: لو كان الطعم وحده هو العلة لاكتفى بذكر صنف أو صنفين من المطعومات، فلما ذكر أربعة أصناف دل على أنه نبه بذكر كل واحد منها على علة فيه ليست في غيره.
وكذلك يقال إن تعليلهم ليس أولى من تعليل المالكية فقد تقدم أنهم استدلوا بورود الكيل والوزن في الحديث، ولم يسلم لهم ذلك، فتعيين الطعم علة بدلا عن الوزن والكيل ترجيح مع تكافؤ الحجج.

وبهذا يعلم أن تعليل الفقهاء للحديث مرده للاجتهاد لا للنص، فالحديث لم ينص على علة من تلك العلل، إنما اجتهد الفقهاء في استنباط وصف يرتبط به الحكم، ويكفي أن يعلل الحكم بدفع الضرر عن الناس في ضروريات حياتهم، فأي سلعة يؤدي المراباة فيها إلى إضرار بالناس في معاشهم فهي صنف ربوي، ويمكن أن يكون هذا هو الجامع المشترك الذي تجتمع فيه الأصناف المنصوص عليها في الحديث، وما كانت كذلك من غيرها ألحقت بها، كما قال ابن القيم: وسر المسألة أنهم منعوا من التجارة في الأثمان بجنسها؛ لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان، ومنعوا من التجارة في الأقوات؛ لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأقوات. أ.هـ.

أو يكون الإلحاق بقياس الشبه، لا بجامع العلة، فما كان مشابها لأحد هذه الأصناف الستة المذكورة إلى حد القطع بنفي الفارق ألحقناه بمثيله، فإن الإلحاق بالشبه مسلك فقهي بنيت عليه كثير من اجتهادات الفقهاء قديما وحديثا، وهو هنا أقرب من الإلحاق بالعلة كما قاله ابن رشد
ويقول د.حاكم المطيري في بحث له بعنوان: "دراسة حديثية وفقهية عن الأحاديث الواردة في الربويات الستة": الصواب هو الإلحاق بهذه الأصناف لا بجامع العلة، وإنما بجامع تحقق أو ترجح نفي الفارق المؤثر بين هذه الأصناف الستة وما شابهها ، ما دام لهذه الأصناف الستة التي ورد بها النص شبيه ومثيل حد انتفاء الفارق المؤثر، فيجب إلحاق الشبيه بشبيهه والمثيل بمثيله بنفي الفارق المؤثر في الحكم سواء كان هذا من باب القياس الجلي والقياس بمعنى الأصل ، أو من باب الأدلة السمعية بدلالة مفهوم الموافقة، وهو ما دل عليه النص لا في محل النطق، فأصبحت هذه الأصناف الستة في دائرة منطوق النص، وما شابهها متى انتفى الفارق المؤثر في دائرة مفهوم النص. أ.هـ.

 

 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة