فلا ورَبِّك لا يؤمنون حتَّى يُحَكِّمُوك فيما شجر بيْنهُم

0 820

أمر الله تعالى عباده المؤمنين بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، وكذا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا الأمر معلوم من الدين بالضرورة، وجعل الله عز وجل طاعته صلى الله عليه وسلم من طاعته سبحانه فقال: {من يطع الرسول فقد أطاع الله}(النساء:80)، كما أمرنا سبحانه بفعل ما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم، واجتناب ما نهانا عنه، فقال عز وجل: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}(الحشر: 7). قال ابن كثير: "أي مهما أمركم به فافعلوه ومهما نهاكم عنه فاجتنبوه، فإنه إنما يأمركم بخير وإنما ينهى عن شر"، وقال ابن تيمية: "أمر الله بطاعة رسوله في أكثر من ثلاثين موضعا من القرآن، وقرن طاعته بطاعته، وقرن بين مخالفته ومخالفته". وإذا كانت طاعة النبي طاعة لله تعالى، فالأدب معه صلى الله عليه وسلم أدب مع الله عز وجل، إذ الأدب مع الرسول هو أدب مع المرسل، ومن الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم التسليم لأمره والانقياد لحكمه، قال ابن القيم :"فرأس الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم :كمال التسليم له والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمله معارضة بخيال باطل، يسميه معقولا، أو يحمله شبهة أو شكا، أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالات أذهانهم، فيوحد بالتحكيم والتسليم، والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل سبحانه وتعالى بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل". 

وقد حكم الله عز وجل بعدم الإيمان على من لا يرضى ويسلم بحكم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ونفي الإيمان عن أحد أمر عظيم يدل على خطورة وعظم السبب في ذلك، فعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: (أن رجلا خاصم الزبير في شراج (مسيل الماء من الوادي) الحرة (موضع بأقصى المدينة) التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر، فأبى عليه، فاختصما عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الأنصاري فقال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا زبير اسق ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر (أصل الأشجار والبستان)، قال: فقال الزبير: والله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}(النساء:65)) رواه البخاري. وفي رواية أخرى عن الزبير بن العوام رضي الله عنه: أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا، وفيها قال الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم: {آن كان ابن عمتك؟). وقد ذكر ابن كثير والواحدي وغيرهما هذا الحديث في سبب نزول هذه الآية، وذكر غيرهما غير ذلك، وقال ابن عاشور: "وتفريع قوله: {فلا وربك لا يؤمنون} على ما قبله يقتضي أن سبب نزول هذه الآية هو قضية الخصومة بين اليهودي والمنافق، وتحاكم المنافق فيها للكاهن، وهذا هو الذي يقتضيه نظم الكلام، وعليه جمهور المفسرين، وقاله مجاهد، وعطاء، والشعبي. وفي البخاري عن الزبير: أحسب هذه الآية نزلت في خصومة بيني وبين أحد الأنصار في شراج من الحرة .. والظاهر عندي أن الحادثتين وقعتا في زمن متقارب ونزلت الآية في شأن حادثة بشر المنافق فظنها الزبير نزلت في حادثته مع الأنصاري". وقد حاول الطبري أن يجمع بين الأسباب التي ذكرها المفسرون في نزول هذه الآية بأنه لا مانع أن تكون قصة الزبير وخصمه وقعت في أثناء أسباب غيرها فيتناولها عموم الآية.

قال القرطبي: "سلك النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير وخصمه مسلك الصلح فقال: اسق يا زبير، لقربه من الماء، ثم أرسل الماء إلى جارك، أي: تساهل في حقك ولا تستوفه وعجل في إرسال الماء إلى جارك، فحضه على المسامحة والتيسير، فلما سمع الأنصاري هذا لم يرض بذلك وغضب، لأنه كان يريد ألا يمسك الماء أصلا، وعند ذلك نطق بالكلمة الجائرة المهلكة الفاقرة فقال: آن كان ابن عمتك؟! على جهة الإنكار، أي: أتحكم له علي لأجل أنه من قرابتك؟ فعند ذلك تلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم غضبا عليه، وحكم للزبير باستيفاء حقه من غير مسامحة له".
وقال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة، أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا، ولهذا قال: {ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} أي: إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، كما ورد في الحديث: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)".

وقال الطيبي: "قوله صلى الله عليه وسلم أولا: (اسق يا زبير ثم أرسل إلي جارك) كان أمرا للزبير بالمعروف، وأخذا بالمسامحة وحسن الجوار بترك بعض حقه، دون أن يكون حكما منه، فلما رأي الأنصاري يجهل موضع حقه أمر صلى الله عليه وسلم الزبير باستيفاء تمام حقه. وفيه دليل علي أنه يجوز العفو عن التعزير، حيث لم يعزر الأنصاري الذي تكلم بما أغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: كان قوله الآخر عقوبة في ماله، وكانت العقوبة إذ ذاك يقع بعضها في الأموال، والأول أصح. وفيه أنه صلى الله عليه وسلم حكم علي الأنصاري في حال غضبه مع نهيه الحاكم أن يحكم وهو غضبان. وذلك لأنه كان معصوما من أن يقول في السخط والرضا إلا حقا". وقال ابن هبيرة: "فلما جهل الأنصاري ذلك وظن الأمر بخلاف ما كان عليه استوفى حق الزبير، ليعلم الأنصاري سر الأمر ويتأدب عن أن يسيء ظنه برسول الله صلى الله عليه وسلم". وفي شرح سنن أبي داود للخطابي: " وقد اختلف الناس في تأويل هذا الحديث فذهب بعضهم إلى أن القول الأول إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه المشورة للزبير وعلى سبيل المسألة في أن يطيب نفسا لجاره الأنصاري دون أن يكون ذلك منه حكما عليه، فلما خالفه الأنصاري حكم عليه بالواجب من حكم الدين".

حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ونصرته وتوقيره، وامتثال أمره والرضى بحكمه بعد موته واجب كوجوبه حال حياته، ومن أهم أسباب هداية العبد وسعادته أن يرزقه الله طاعة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وإن تطيعوه تهتدوا}(النور:54). وقد حذرنا الله عز وجل من مخالفته وعصيانه فقال سبحانه: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين}(النساء:14)، وأوجب علينا تصديق خبره، والرضى بحكمه والتسليم له، فقال عز وجل: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما}(النساء:65).

وقال حافظ بن أحمد الحكمي :

              حكم نبيك وانقد وارض سنته      مع اليقين وحول الشك لا تحم
              فما لذي ريبة في نفسه حرج      مما قضى قط في الأيمان من قسم
             {فلا وربك} أقوى زاجرا لأولي    الألباب والملحد الزنديق في صمم

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة