أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا

0 966

في المرحلة المكية من السيرة النبوية استخدمت قريش أساليب متعددة في محاربة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، للحيلولة دون دخول الناس في الإسلام، ومن هذه الأساليب: أسلوب التهديد والوعيد، والإغراء والترغيب، فلم يفلحوا ولم يجدوا في ذلك فائدة، فانتقلوا إلى الإيذاء والتعذيب الجسدي، وأصدر زعماء قريش أوامرهم إلى القبائل ليصبوا العذاب والأذى على كل من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به، وبلغوا في ذلك مبلغا شديدا، قال ابن هشام وغيره في السيرة النبوية: "فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، من استضعفوا منهم، يفتنونهم عن دينهم".
وقد وصل الحال بالصحابة رضوان الله عليهم من شدة التعذيب أن عذرهم الله تعالى بالنطق بكلمة الكفر يخففون بها عن أنفسهم سوء العذاب النازل عليهم، قال ابن كثير وغيره: "قال ابن إسحاق: عن سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله! إن كانوا ليضربون أحدهم، ويجيعونه، ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهآن من دون الله، فيقول: نعم، افتداء منهم بما يبلغون من جهدهم .. قلت: وفي مثل هذا أنزل الله تعالى {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم}(النحل: 106)، فهؤلاء كانوا معذورين بما حصل لهم من الإهانة والعذاب البليغ، أجارنا الله من ذلك بحوله وقوته".
وعلى الرغم من مكانة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في قريش إلا أنه كان من الصحابة الذين خرجوا مهاجرين إلى الحبشة في المرة الأولى، لكن ابن الدغنة سيد الأحابيش (قبائل في مكة)، أرجعه إلى مكة وأدخله في جواره وحمايته، وقال لقريش: (أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق) رواه البخاري، وهي نفس الأوصاف التي وصفت بها خديجة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أول نزول الوحي عليه، وذلك على غير التقاء أو اتفاق بين خديجة رضي الله عنها وابن الدغنة، ولم يوصف بهذه الصفات مجتمعة أحد غير النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه، وفي ذلك منقبة عظيمة لأبي بكر رضي الله عنه.

إعتاق أبي بكر الصديق للمستضعفين المعذبين :
أنفق أبو بكر رضي الله عنه ماله في نصرة الإسلام وإعتاق المستضعفين المعذبين من المسلمين، وعلى رأسهم: بلال بن رباح رضي الله عنه، قال ابن القيم في زاد المعاد: "وكان بلال بن رباح رضي الله عنه، مولى لبعض بني جمح، يخرجه سيده أمية بن خلف ـ لعنه الله ـ إذا حميت الشمس وقت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة، فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك البلاء: أحد أحد". وقال ابن كثير: "كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك (يوافق قريش على الكفر) وهم يفعلون به الأفاعيل، حتى أنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر، ويأمرونه أن يشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول: أحد، أحد، ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها رضي الله عنه وأرضاه".
وفي السيرة النبوية لابن هشام: "أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه مر على أمية بن خلف لعنه الله، وهو يعذب بلالا رضي الله عنه، فقال له أبو بكر: ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟ قال: أنت الذي أفسدته فأنقذه مما ترى، فقال أبو بكر رضي الله عنه: أفعل، عندي غلام أسود أجلد (أصبر) منه وأقوى، أعطيكه به، قال أمية: قد قبلت، فقال أبو بكر رضي الله عنه: هو لك، فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك، وأخذ بلالا فأعتقه"، وفي رواية لابن أبي شيبة في مصنفه بسند صحيح عن قيس بن أبي حازم قال: "اشترى أبو بكر بلالا بخمس أواق ذهبا، قالوا: لو أبيت إلا أوقية لبعناكه، فقال رضي الله عنه: لو أبيتم إلا مائة أوقية لأخذته"، قال ابن حجر في "فتح الباري": "ويجمع بين القصتين بأن كلا من أمية بن خلف وأبي جهل كان يعذب بلالا، ولهما نصيب فيه".

أبو قحافة والد أبي بكر يلومه على إعتاقه للضعفاء :
لم يكن أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقصد بعمله شهرة ولا مدحا، ولا جاها ولا دنيا، وإنما كان يريد وجه الله تعالى ذي الجلال والإكرام، فعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: قال أبو قحافة لابنه أبي بكر رضي الله عنهما: (يا بني، إني أراك تعتق رقابا ضعافا، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا (أقوياء) يمنعونك ويقومون دونك؟! فقال أبو بكر: يا أبت، إني أريد ما أريد. قال (عبد الله بن الزبير): فيتحدث ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيه وفيما قال أبوه: {فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى * وما يغني عنه ماله إذا تردى * إن علينا للهدى * وإن لنا للآخرة والأولى * فأنذرتكم نارا تلظى * لا يصلاها إلا الأشقى * الذي كذب وتولى * وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى}(الليل: 21:5)) رواه الحاكم. وقال ابن كثير في تفسيره لهذه الآيات: "ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك، ولا شك أنه داخل فيها، وأولى الأمة بعمومها، فإن لفظها لفظ العموم، وهو قوله تعالى: {وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى}، ولكنه مقدم الأمة، وسابقهم في جميع هذه الأوصاف، وسائر الأوصاف الحميدة" .
وقال الشنقيطي في أضواء البيان: "قد قيل أيضا: إن المراد بقوله: {وسيجنبها ٱلأتقى * ٱلذى يؤتى ماله يتزكى} إلى آخر السورة نازل في أبي بكر رضي الله عنه لما كان يعتق ضعفة المسلمين، ومن يعذبون على إسلامهم في مكة، فقيل له: لو اشتريت الأقوياء يساعدونك ويدافعون عنك؟ فأنزل الله تعالى الآيات إلى قوله: {وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ٱبتغاء وجه ربه ٱلأعلى * ولسوف يرضى}".

أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا :
أبو بكر رضي الله عنه كنيته: أبو بكر، ولقبه الصديق، لتصديقه بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وخاصة تصديقه لحديث الإسراء والمعراج، وكان رضي الله عنه يسمى أيضا: عتيقا، فعن عائشة رضي الله عنها: (إن أبا بكر دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا بكر، أنت عتيق الله من النار، قالت: فيومئذ سمي عتيقا) رواه الترمذي وصححه الألباني. وقال أبو نعيم الأصبهاني في: "حلية الأولياء": "أبو بكر الصديق، السابق إلى التصديق، الملقب بالعتيق، المؤيد من الله بالتوفيق، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والأسفار"، وقد روى البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا، ـ يعني بلالا ـ). قال الهروي: "(أبو بكر سيدنا) أي خيرنا وأفضلنا، (وأعتق) أي: أبو بكر (سيدنا): يريد عمر بقوله سيدنا الثاني (بلالا)، وإنما قاله تواضعا، فإن عمر أفضل منه إجماعا".. فرضي الله عن أبي بكر وعمر وبلال وجميع صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم .

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة