معجم البلدان لـ(ياقوت الحموي)

0 951

اعتمد الجغرافيون المسلمون على رحلاتهم الشخصية، وكان ياقوت الحموي (ت 626هـ)، من هؤلاء البلدانيين الذين جمعوا معلومات قيمة، وقد وضعها في مصنفه الجامع "معجم البلدان"، الذي يعد من أهم المصادر في بابه وأكثرها شهرة، وذلك لما تضمنه من مادة جغرافية وتاريخية وأدبية متنوعة.
ومعلوم أن المعاجم أو القواميس الجغرافية تمثل نمطا من أنماط الفهرسة والتبويب، وانتخاب المعلومات الجغرافية وتصنيفها؛ حسب الترتيب الأبجدي, ويتطلب التأليف في هذا المجال توفر القدرة العلمية والبحثية على حصر المادة الجغرافية، والقدرة على التمييز بين الصالح منها والضعيف المتهالك، وإنجاز المعجم الجغرافي يعد بحق ابتكارا إسلاميا بامتياز؛ فقد أكثروا من تصنيف القواميس في علم الجغرافية، ومنها كتاب "معجم البلدان" لياقوت الحموي، الذي ألفه في القرن السابع الهجري.

أما فكرة تأليف الكتاب فقد غاب عنه ضبط لفظة هي سوق من أسواق العرب في جاهليتهم، فكانت هذه الحادثة دافعا قويا له لوضع معجم عام يجمع شتات المادة الجغرافية المعروفة؛ لهذا انصرف إلى تأليف معجمه، ولكي يجهز نفسه لإنجاز المعجم؛ رجع إلى كثير من الكتب ونقل منها بأمانة، فأورد وصفا جيدا لكل ما استطاع أن يصل إلى علمه عن المدن ومواضعها، إضافة إلى رحلته العلمية في تلك السبيل، وبعد أن أنجزه قال ياقوت عنه في مقدمته واصفا إياه: "كتاب في أسماء البلدان والجبال والأودية والقيعان والقرى والمحال والأوطان والبحار والأنهار والغدران والأصنام والأنداد والأوثان".
وقد كانت مقدمة كتابه من أنفس ما لا ينبغي أن يجهله طالب علم عموما، ومحب الجغرافية والبلدان خصوصا، وهذه بعض مقتطفات منها:
قال في أول مقدمته شارحا دافعه في جمع كتابه:
"هذا كتاب في أسماء البلدان، والجبال، والأودية، والقيعان، والقرى، والمحال، والأوطان، والبحار، والأنهار، والغدران، والأصنام، والأنداد، والأوثان؛ لم أقصد بتأليفه، وأصمد نفسي لتصنيفه، لهوا ولا لعبا، ولا رغبة حثتني إليه ولا رهبا، ولا حنينا استفزني إلى وطن، ولا طربا حفزني إلى ذي ود وسكن، ولكن رأيت التصدي له واجبا، والانتداب له مع القدرة عليه فرضا لازبا، وفقني عليه الكتاب العزيز الكريم، وهداني اليه النبأ العظيم، وهو قوله عزو جل، حين أراد أن يعرف عباده آياته ومثلاته، ويقيم الحجة عليهم في إنزاله بهم أليم نقماته: {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} (الحج:46)؛ فهذا تقريع لمن سار في بلاده ولم يعتبر، ونظر إلى القرون الخالية فلم ينزجر، وقال وهو أصدق القائلين: {قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين} (الأنعام:11)؛ أي انظروا إلى ديارهم كيف درست، وإلى آثارهم وأنوارهم كيف انطمست، عقوبة لهم على اطراح أوامره، وارتكاب زواجره، إلى غير ذلك من الآيات المحكمة، والأوامر والزواجر المبرمة؛ فالأول توبيخ لسبق النهي عن المعصية شاهرا، والثاني أمر يقتضي الوجوب ظاهرا".

وقال في معرض ذكره حاجة أهل العلم جميعا للباب الذي ألف فيه وجمع من أجله كتابه الممتع:
"الافتقار إلى هذا الشأن يشترك فيه كل من ضرب في العلم بسهم...؛ فإني رأيت جل نقلة الأخبار، وأعيان رواة الأشعار والآثار، ممن عني بها دهره، وأنفد فيها عرضه وعمره حسن الاستمرار على الصواب...، حتى يمر بهم ذكر بقعة كانت بها وقعة واقعة، فيختلط لاحتياجه إلى النقل لا العقل، والرواية لا الدراية، فتراه إما غالطا، أو مغالطا، فيخفض من صوته بعد رفعه، ويتكهم ماضي لسانه بقدعه، ثم قلما رأيت الكتب المتقنة الخط، المحتاط لها بالضبط والنقط، إلا وأسماء البقاع فيها مهملة أو محرفة، وعن محجة الصواب منعطفة أو منحرفة، قد أهمله كاتبه جهلا، وصوره على التوهم نقلا، وكم إمام جليل، ووجه من الأعيان نبيل، وأمير كبير، ووزير خطير، ينسب إلى مكان مجهول، فتراه عند ترجيم الظنون على كل محتمل محمول، فإن سئل عنه أهل المعارف أخذوا بالنصف الأرذل من العلم، وهو لا أدري. وبئست الخطة للرجل الفاضل، فإن التمس لذلك مظنة، أعضل، أو أريغ له مطلب، أعوز وأشكل، لإغفالهم هذا الفن من العلم الخطير مع جلالته، وإعراضهم عن هذا المقصد الكبير مع فخامته. ومن ذا الذي يستغني من أولي البصائر عن معرفة أسماء الأماكن وتصحيحها، وضبط أصقاعها وتنقيحها، والناس في الافتقار إلى علمها سواسية".

ثم بين قيمة معرفة الأماكن وضبطها، وأنها بالخصوص لا يستغني عنها عالم بالشرع؛ فقال:
"من هذه الأماكن ما هي مواقيت للحجاج والزائرين، ومعالم للصحابة والتابعين، رضوان الله عليهم أجمعين، ومشاهد للأولياء والصالحين، ومواطن غزوات سرايا سيد المرسلين، وفتوح الأئمة من الخلفاء الراشدين، وقد فتحت هذه الأماكن صلحا وعنوة، وأمانا وقوة، ولكل من ذلك حكم في الشريعة، في قسمة الفيء وأخذ الجزية، وتناول الخراج واجتناء المقاطعات والمصالحات، وإنالة التسويفات والإقطاعات، لا يسع الفقهاء جهلها، ولا يعذر الأئمة والأمراء إذا فاتهم في طريق العلم حزنها وسهلها؛ لأنها من لوازم فتيا الدين، وضوابط قواعد الإسلام والمسلمين.
فأما أهل السير والأخبار، والحديث والتواريخ والآثار، فحاجتهم إلى معرفتها أمس...، لأنه معتمد علمهم...، وأما أهل الحكمة والتفهيم، والتطبب والتنجيم، فلا تقصر حاجتهم إلى معرفته عمن قدمنا، فالأطباء لمعرفة أمزجة البلدان وأهوائها، والمنجم للاطلاع على مطالع النجوم وأنوائها،... ولذلك صنف كثير من القدماء كتبا سموها جغرافيا، ومعناها صورة الأرض، وألف آخرون كتبا في أمزجة البلدان وأهوائها...
وأما أهل الأدب فناهيك بحاجتهم إليها، لأنها من ضوابط اللغوي ولوازمه، وشواهد النحوي ودعائمه، ومعتمد الشاعر في تحلية جيد شعره بذكرها...
فإنه إن زعم أنه واد وكان جبلا، أو جبل وكان صحراء، أو صحراء وكان نهرا، أو نهر وكان قرية، أو قرية وكان شعبا، أو شعب وكان حزما، أو حزم وكان روضة، أو روضة وكان صفصفا، أو صفصف وكان مستنقعا، أو مستنقع وكان جلدا، أو جلد وكان سبخة، أو سبخة وكان حرة، أو حرة وكان سهلا، أو سهل وكان وعرا، أو يجعله شرقيا وكان غربيا، أو جنوبيا وكان شماليا، سفل قدره، ونزر كثره".

ثم ذكر باعثه الأول على التصنيف في هذا النوع من العلم؛ فقال:
"وكان من أول البواعث لجمع هذا الكتاب، أنني سئلت بمرو الشاهجان، عن حباشة اسم موضع جاء في الحديث النبوي، وهو سوق من أسواق العرب في الجاهلية؛ فقلت: أرى أنه حباشة بضم الحاء، قياسا على أصل هذه اللفظة في اللغة، لأن الحباشة: الجماعة من الناس من قبائل شتى، وحبشت له حباشة أي جمعت له شيئا؛ فانبرى لي رجل من المحدثين، وقال: إنما هو حباشة بالفتح، وصمم على ذلك وكابر، وجاهر بالعناد من غير حجة وناظر، فأردت قطع الاحتجاج بالنقل؛ إذ لا معول في مثل هذا على اشتقاق ولا عقل؛ فاستعصى كشفه في كتب غرائب الأحاديث، ودواوين اللغات مع سعة الكتب التي كانت بمرو يومئذ، وكثرة وجودها في الوقوف، وسهولة تناولها، فلم أظفر به إلا بعد انقضاء ذلك الشغب والمراء، ويأس من وجوده ببحث واقتراء، فكان موافقا والحمد لله لما قلته، ومكيلا بالصاع الذي كلته، فألقي حينئذ في روعي افتقار العالم إلى كتاب في هذا الشأن مضبوطا، وبالإتقان وتصحيح الألفاظ بالتقييد مخطوطا، ليكون في مثل هذه الظلمة هاديا، وإلى ضوء الصواب داعيا، ونبهت على هذه الفضيلة النبيلة، وشرح صدري لنيل هذه المنقبة التي غفل عنها الأولون، ولم يهتد لها الغابرون؛ يقول من تقرع أسماعه: كم ترك الأول للآخر!".

ثم ذكر أسماء من صنف من المتقدمين عليه في أسماء الأماكن، وأسماء كتبهم وذكر أنه اقتدى بهم، وأوضح أن تلك المصنفات صنفان:
منها ما قصد بتصنيفه ذكر المدن المعمورة والبلدان المسكونة المشهورة، ومنها ما قصد به ذكر البوادي والقفار، واقتصر على منازل العرب الواردة في أخبارهم والأشعار.
وبعد أن عدد الكتب ومؤلفيها، بين مدى مجهوده في نقل معلوماتها، والتزامه الأمانة في ذلك؛ فقال:
"وهذه الكتب المدونة في هذا الباب التي نقلت منها، ثم نقلت من دواوين العرب والمحدثين وتواريخ أهل الأدب والمحدثين، ومن أفواه الرواة، وتفاريق الكتب، وما شاهدته في أسفاري، وحصلته في تطوافي، أضعاف ذلك، والله الموفق".
وفي السياق أعطى أحكامه التي تحصلت له على تلك المصنفات - وقد كان قسمها على طبقات - ما كان منها جيدا في بابه وما كان قليل الفائدة؛ فقال:
"فأما الطبقة الأولى، فأسماء الأماكن في كتبهم مصحفة مغيرة، وفي حيز العدم مصيرة، قد مسخها من نسخها، وأما الطبقة الثانية فإنها وإن وجدت لها أصول مضبوطة، وبخطوط العلماء منوطة مربوطة، فإنها غير مرتبة، لشدة الاختصار، لأن قصدهم منها تصحيح الألفاظ، لا الإبانة عما عدا ذلك من الأغراض".

وفي آخر مقدمته النفيسة سرد منهجه المحكم في مصنفه العجيب المفيد؛ فقال:
"فاستخرت الله تعالى، وجمعت ما شتتوه، وأضفت اليه ما أهملوه، ورتبته على حروف المعجم، ووضعته وضع أهل اللغة المحكم، وأبنت عن كل حرف من الاسم: هل هو ساكن أو مفتوح أو مضموم أو مكسور، وأزلت عنه عوارض الشبه، وجعلته تبرا بعد أن كان من الشبه، ثم أذكر اشتقاقه إن كان عربيا، ومعناه إن أحطت به علما إن كان عجميا، وفي أي إقليم هو وأي شيء طالعه، وما المستولي عليه من الكواكب، ومن بناه، وأي بلد من المشهورات يجاوره، وكم المسافة بينه وبين ما يقاربه، وبماذا اختص من الخصائص، وما ذكر فيه من العجائب، وبعض من دفن فيه من الأعيان والصالحين والصحابة والتابعين، ونبذا مما قيل فيه من الأشعار في الحنين إلى الأوطان، الشاهدة على صحة ضبطه والإتقان، وفي أي زمان فتحه المسلمون وكيفية ذلك، ومن كان أميره، وهل فتح صلحا أو عنوة، لتعرف حكمه في الفيء والجزية، ومن ملكه في أيامنا هذه.
على أنه ليس هذا الاشتراط بمطاوع لنا في جميع ما نورده، ولا ممكن في قدرة أحد غيرنا، وإنما يجيء على هذا البلدان المشهورة، والأمهات المعمورة، وربما ذكر بعض هذه الشروط دون بعض على حسب ما أدانا إليه الاجتهاد، وملكناه الطلب والارتياد".
على أنه رحمه الله لأمانته وصدقه وجليل معرفته، بين أنه أعطى القارئ فوائد عظيمة، في قالب سهل ممتع، ونبهه إلى أن هناك أشياء ذكرها من باب التتميم العلمي والتنكيت، ولا يلزم من ذلك صحتها، قال:
"واستقصيت لك الفوائد جلها أو كلها، وملكتك عفوا صفوا عقدها وحلها، حتى لقد ذكرت أشياء كثيرة تأباها العقول، وتنفر عنها طباع من له محصول، لبعدها عن العادات المألوفة، وتنافرها عن المشاهدات المعروفة، وإن كان لا يستعظم شيء مع قدرة الخالق وحيل المخلوق، وأنا مرتاب بها نافر عنها متبرئ إلى قارئها من صحتها، لأنني كتبتها حرصا على إحراز الفوائد، وطلبا لتحصيل القلائد منها والفرائد، فإن كانت حقا فقد أخذنا منها بنصيب المصيب، وإن كانت باطلا فلها في الحق شرك ونصيب، لأنني نقلتها كما وجدتها، فأنا صادق في إيرادها كما أوردتها، لتعرف ما قيل في ذلك حقا كان أو باطلا، فإن قائلا لو قال: سمعت زيدا يكذب، لأحببت أن تعرف كيفية كذبه".

وبعد اعتذاره عما يمكن أن يكون في كتابه من الزلل والسهو؛ إلا أنه واثق في صناعته، وأنه يبذ بمصنفه غيره من المصنفات التي تشترك معه في الموضوع، يقول ذلك وثوب التواضع يلفه، قال رحمه الله:
"وعلى ذلك فإنني أقول ولا أحتشم، وأدعو إلى النزال كل علم في العلم ولا أنهزم، إن كتابي هذا أوحد في بابه، مؤمر على أضرابه، لا يقوم بإبراز مثله إلا من أيد بالتوفيق، وركب في طلب فوائده كل طريق، فغار تارة وأنجد، وطوح لأجله بنفسه فأبعد، وتفرغ له في عصر الشبيبة وحرارته، وساعده العمر بامتداده وكفايته، وظهرت منه أمارات الحرث وحركته. نعم، وإن كنت أستصغر هذه الغاية فهي كبيرة، أو أستقلها فهي لعمر الله كثيرة، وأما الاستيعاب فشيء لا يفي به طول الأعمار، ويحول دونه مانعا العجز والبوار، فقطعته والعين طامحة، والهمة إلى طلب الازدياد جامحة، ولو وثقت بمساعدة العمر وامتداده، وركنت إلى توفيقي لرجائي فيه واستعداده، لضاعفت حجمه أضعافا، وزدت في فوائده مئين بل آلافا، ولو التمست نفاق هذا الكتاب وسيرورته، واعتمدت إشاعة ذكره وشهرته، لصغرته بقدر الهمم العصرية، ورغبات أهل الطلب الدنية، ولكني انقدت فيه لنهمتي، وجرني رسن الحرص إلى بعض بواعث همتي، وسألت الله، جل وعز، أن لا يحرمنا ثواب التعب فيه، ولا يكلنا إلى نفسنا فيما نحاوله وننويه، وجائزتي على ما أوضعت إليه ركاب خاطري، وأسهرت في تحصيله بدني وناظري، دعاء المستفيدين، وذكر زكي من المؤمنين، بأن أحشر في زمرة الصالحين.

وإذا أردنا معرفة مضامين أبواب المعجم الخمسة فقد ذكرها ياقوت في مقدمة كتابه، وهي:
الباب الأول: في صفة الأرض وما فيها من الجبال والبحار وغير ذلك.
الباب الثاني: في ذكر الأقاليم السبعة واشتقاقها والاختلاف في كيفيتها.
الباب الثالث: في تفسير الألفاظ التي يتكرر ذكرها في هذا الكتاب.
الباب الرابع: في أقوال الفقهاء في أحكام أراضي الفيء والغنيمة وكيفية قسمة ذلك.
الباب الخامس: في جمل من أخبار البلدان.

قال رحمه الله في سلخ مقدمته بعد ذكر هذه الأبواب الخمسة:
"ثم أعود إلى الغرض فأقسمه ثمانية وعشرين كتابا على عدد حروف المعجم، ثم أقسم كل كتاب إلى ثمانية وعشرين بابا للحرف الثاني للأول، وألتزم ترتيب كل كلمة منه على أول الحرف وثانيه وثالثه ورابعه، وإلى أي غاية بلغ، فأقدم ما يجب تقديمه بحكم ترتيب: اب ت ث... على صورته الموضوعة له، من غير نظر إلى أصول الكلمة وزوائدها، لأن جميع ما يرد إنما هي أعلام لمسميات مفردة، وأكثرها عجمية ومرتجلة؛ لا مساغ للاشتقاق فيها".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة