إرهاب مصطلح الإرهاب

0 1001

في غمرة دخان هذه الحرب العالمية التي تشن على الأمة في أماكن كثيرة، كثيرا ما يضرب بسلاح فتاك يؤثر في أبنائنا، وهو أكثر خطورة من السلاح المعروف خطره كالرصاص والقنابل وآلياتها من دبابات وطائرات.
ذلك السلاح هو سلاح الكلمة، وهو سلاح قديم، وقديما عرفت العرب خطره، وكثيرا ما كان شعراؤهم يقرنونه بالسلاح، كقول حسان:
لساني صارم لا عيب فيه *** وبحري لا تكدره الدلاء
ومما يروى عن ابن عباس قوله:
قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل *** وفي فمي صارم كالسيف مأثور
وهذا الصارم يطعن ويجرح ويقتل! وقد علم من الواقع أن من الناس من يجرح بلسانه جروحا لا تندمل مع الزمن، ومن الناس من يقتل بلسانه قبائل، ومن الناس من يرهب به أمما!
ولعظم آثار الكلمات جاءت الشريعة ببيان خطرها: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالا يهوى بها في جهنم).

وقد أدرك المجرمون أعداء الدين خطر الكلمة، وعظيم أثرها منذ العصور الأولى، لكنهم اليوم طوروا سلاحها على دأبهم في تطوير أسلحة الدمار الأخرى، فغدا إعلامهم الموجه المدروس قاتلا للقيم محترفا، فتاكا بالعقول، مدمرا للأخلاق.
ومن جملة حرب أعداء الدين اللسانية المدروسة على القيم الشرعية حرب المصطلحات، وهي ألقاب وألفاظ يطلقونها على طريقين:
الطريق الأول: يطلقون ألفاظا تتضمن مدلولات قبيحة، لكنهم يلبسون فلا يجردونها للحق فيفتضحوا ويعرفوا بعدائهم للحق وأهله، وأنهم شرذمة لا تريد إلا نبذه، فيضعون تلك الألفاظ في موضعها تمويها أو لمصلحتهم، وفي غير مواضعها فيجعلونها ألقابا على غير أهلها.
والطريق الثاني: يطلقون ألفاظا تتضمن مدلولات متفاوتة فيها الحسن وفيها القبيح، فيعممون حكمها على من يصدق عليهم المفهوم المحظور، ومن يصدق عليهم المفهوم المشروع.
وقد مر زمان تجلت فيه الطريقة الأولى في بلدان إسلامية، فجاء وقت أصبح فيه الملتزم بالسنة يوسم بالمتطرف وينعت بالتشدد.. نعم كان هناك غلاة ومتطرفون حقيقة لكن غدا بفعل المغرضين الغلو والتطرف كالعلم على الجمهور الأعظم من أهل الاستقامة "المعتدلون الملتزمون بالسنن"، فلو أن أحدا من الناس رفع ثوبه فوق الكعبين قالوا متشدد، ولو أن إنسانا أطلق لحيته عدوه متشددا، ويخطب الفاضل في بعض بلاد الله عز وجل ابنة رجل، فيقال: "تراه متشددا؛ يقصر ثوبه ويطلق لحيته"! كل ذلك بفعل آلة إعلامية تغريبية رسخت في العقول إسقاطات خاطئة لهذا اللقب المذموم.

وفي الآونة الأخيرة تجلت الطريقة الثانية، لاسيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، الذي كان يوما عالميا لإطلاق مصطلح الإرهاب؛ يريدون به ما هو أشبه في لغتنا بالقتل والتفجير ظلما وعدوانا، ثم تطورت الدلالة عند بعضهم ليصبح كل إسلامي إرهابيا، لا أقول في نظر هؤلاء إذ هم يكذبون ويعلمون أنهم يكذبون! لكن في نظر مسلمين!
حتى جاء وقت غدا الإرهاب فيه هاجسا عند العامة، يرمون به من هو أهل للذم، وكذلك الأبرياء لا يميزون بفعل الضغط الإعلامي! وأذكر قبل سنوات أني حضرت لشفاعة في قضية فوجدت أمامي قضية لرجل يلبس لباسا رياضيا ومعه زوجته وعليه آثار دماء وشجار، يحرر محضرا جنائيا بحادثته وبلاغا ضد معتد عليه، وفهمت أنه كان يتمشى أو يمارس الرياضة فرآه بعض من طبعت وسائل الإعلام التغريبية في مخيلتهم صورة مزورة للإرهابي! وغرست في نفوسهم فوبيا ضد مظاهر إسلامية، فلما رأى هذا يتمشى سارع بالاتصال والتبليغ عن إرهابي! ولم يكتف بذلك بل دخل في عراك معه وهو يصيح: "إرهابي إرهابي"!
وهذه نتيجة لما تؤثره الآلات الغربية الراعية لهذا المصطلح، فقد أطلقوه كما ذكرت آنفا على أنواع من العدوان، واستخدموا ما يملكونه من قوة سياسية وعسكرية وإعلامية ومادية لتمرير هذا المصطلح على من يشاؤون! وأرهبت الدول لتصدقه، حتى غدت تنتفض لتثبت أنها ليست إرهابية، وأنها تدين الإرهاب بكافة أشكاله وصوره!

بل غدا الإرهاب تهمة للابتزاز فإذا أرادوا الضغط على دولة قالوا: تمارس الإرهاب، وإذا أرادوا الضغط على شخص وصموه بالإرهاب!
مع أننا لا نخالف في وجود شرذمة قليلة من منتسبي الإسلام قد وقعوا في الإرهاب المذموم المتضمن للعدوان والبغي الذي أمرت الشريعة بضده ونهت عنه كما في قول الله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والـمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} [النحل: 90]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخره له في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم) ، إلى غير ذلك من الأدلة المتظاهرة على تحريم البغي والعدوان.
لكن هؤلاء يريدون أن يدخلوا في المعنى نبلاء شرفاء، بل أدخلوا بموازينهم المنكوسة في مسمى الإرهاب من لا يشملهم المفهوم المذموم للإرهاب في الشريعة، فأدخلوا فيه أبرياء مظلومين يحاولون رفع الظلم النازل بهم! فكل مجاهد رافض للبغي والعدوان في سوريا أو فلسطين مثلا "إرهابي" .
وفي مقابل التوسع في إدخال المسلمين تحت مسمى الإرهاب يخرجون أنفسهم دولا وجماعات إرهابية، يهودية أو نصرانية أو علمانية لا دينية! وربما أدخلوا جماعات وتنظيمات غربية أو شرقية في مسمى الإرهاب هي أهل للإدخال، لكن ما يتركونه من جماعة البغي والعدوان يشرعون له الأبواب أكثر، وما المنظمات الداعمة للصهيونية العاملة على حرب الإسلام، والتخويف منه إلا أنموذج صغير للإرهاب المدعوم أو المسكوت عنه غربيا! بينما يحاربون في بلدان المسلمين المؤسسات الإغاثية، والتعليمية أو يضيقون عليها بدعوى الإرهاب! مع أنها أبعد ما تكون عن الإرهاب، بل هي تحارب الغلو والتطرف، وتربي الناس على منهج الوسطية!
وأمر هؤلاء أشد من حال من أنكر عليه الأول بقوله:
يا واعظ الناس قد أصبحت متهما *** إذ عبت منهم أمورا أنت تأتيها
كمن كسا الناس من عري وعورته ***  للناس بادية ما إن يـواريـها

إن من العجائب أن يعظ شيطان عبدا صالحا! وأعجب من ذلك أن يعظ الغرب المسلمين في الإرهاب بينما قامت دولهم على الإرهاب ومارست أبشع أنواعه! من الذي أشعل حربين عالميتين أزهقت فيها من أرواح المدنيين ملايين؟! من الذين ابتكروا للناس الأسلحة العمياء: نووية وبيولوجية وكيميائية؟! من الذين أخرجوا للناس أسلحة الدمار الشامل والقنابل العنقودية؟! من دمر بها أفغانستان والعراق والشام؟! من الذي جاء باليهود إلى فلسطين، ثم حماهم، وأمدهم بأسلحة فتاكة، لا يزالون منذ أكثر من سبعين عاما يقتلون بها ويعذبون؟! من الذي دمر غزة؟! من الذي أطلق حق الفيتو لخمس دول تحمي الظلم والعدوان؟!
كم ذهب ضحية لذلك - وغيره - من المسلمين! أعداد مهولة لا نعرف تنظيما إرهابيا منتسبا للإسلام يضاهي في إفساده ما أفسده الإرهاب الغربي والشرقي الجائر بكل معايير الفضيلة! وفي كل أرجاء البسيطة!

والواجب على المسلم أنى كان موقعه سياسيا أو إعلاميا أو دعويا، أن يعي ذلك، وأن لا تستخفه الدعاية المضللة، وألا يسبب له الإرهاب الغربي أو ضغطه متعدد الجهات اختلالا في الوعي، وغبشا في المفاهيم، فيفرق بين الباغي المعتدي من المسلمين وغيرهم، وبين المطالب بحق مشروع، فيكون عونا للثاني، حربا للأول، لينصلح الحال وتستقيم الأمور. والله المستعان.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة