كتاب: عوامل قيام الحضارات وانهيارها في القرآن الكريم

0 594

هذا الكتاب من تأليف الباحث والمفكر أسامة الألفي، بحث في كتابه العوامل المؤدية إلى قيام الحضارات، أو سقوطها من خلال القرآن الكريم، إذ أوضح كتاب الله عوامل قيام الحضارات، التي كثيرا ما تكون ذاتها عوامل سقوطها، وقدم القصص القرآني نماذج لحضارات سادت ثم بادت، ولم يغفل الكتاب تناول الحضارة مشيرا ومعددا أسباب تدهورها، وكذا الحضارة الغربية التي حملت في طيات قيامها ونهضتها بذور أفولها؛ وفي الكتاب رد مباشر على دعاوى تصادم الحضارات، التي نادى بها العالم السياسي والمفكر الأمريكي (صامويل هنتنجتون) وغيره، من خلال الإشارة إلى الدعوة القرآنية الكريمة لتحاور الحضارات بدلا من تصادمها.

ينطلق مؤلف الكتاب من فكرة مفادها أن الحضارة -شأنها شأن الإنسان- لها سنن وعوامل تؤدي إلى قيامها، لو أحسن تطبيقها واستثمارها، صلحت مسيرتها، وإن أهملت تاهت وضاعت بين الدهاليز المظلمة، ومن ثم يحاول الكاتب عرض تلك العوامل التي تؤدي إلى قيام الحضارات وصعودها، أو اضمحلالها وانهيارها.

المنهج القرآني

يرى الكاتب أن الجامع المشترك لمختلف المفاهيم السياسية والاقتصادية والتاريخية للحضارة هو الاستقرار، وأن الحضارة تعبر عن حاجة إنسانية تميز الإنسان عن غيره من الكائنات؛ وأن العوامل التي تحكم قيام الحضارات وانهيارها (سنن) معينة تتسم بالثبات، وهذا ما تنبه إليه المفكرون المسلمون، فانكبوا على دراسة المنهج القرآني في التعامل مع التاريخ البشري، وسعوا إلى الانتقال بهذا التعامل من مرحلة العرض والتجميع إلى محاولة استخلاص القوانين التي تحكم الظواهر الاجتماعية والتاريخية، كما فعل ابن خلدون مثلا، فهناك سنن ونواميس تخضع لها الحركة التاريخية لأي مجتمع في سيرها وانتقالها من حال إلى حال.

والإسلام لا يتصور أن القوى الاقتصادية أو المادية وحدها يمكن أن تحدث تغييرا، أو تحولا في المجتمع البشري، إنما تغير ما في نفس الإنسان هو الذي يتجلى في التغيير الذي يحدثه في ظروف البشر الخارجية، ومن ثم فإن فلسفة التاريخ الإسلامية هي تفسير التاريخ المعنوي؛ لأنها ترى في الإنسان كائنا معنويا، فالظروف الخارجية تؤثر في حياته، لكن العامل الحاسم هو الإنسان نفسه.

عوامل قيام الحضارة

وأهم عوامل قيام الحضارة -بحسب الكاتب- هو (العقيدة) فلا حضارة دون عقيدة تدفعها وتغذيها. ويقدم القرآن الكريم نظاما متكاملا للحياة الإنسانية: سياسيا، واقتصاديا، واجتماعيا، فالتوجيهات القرآنية ما وضعت إلا للارتقاء بروح الإنسان، وصياغة مجتمع العدالة والمساواة.

وثاني عوامل قيام الحضارة في الإسلام هو (الإنسان) فعناية القرآن بالإنسان وتأهله ليكون صانع الحضارة تمتد إلى آفاق رحبة متسعة؛ إذ حرص كتاب الله على أن يعرف الإنسان أن جميع البشر متساوون، بغض النظر عن اللون، أو الجنس، أو العقيدة، فالجميع سواسية أمام قانون إلهي رحيم أساسه العدل؛ والقرآن حرص على تأسيس إنسان متوازن الشخصية، سوي النفس، لا يطغيه الغنى، ولا ينسيه الفقر، لا يستخفه النصر، ولا تسحقه الهزيمة، لا تبطره النعمة، ولا تزلزله المصيبة، مطمئن القلب، راضي النفس، متفائل الروح، لا ييأس، وإن سدت في وجهه الأبواب، وأغلقت أمامه السبل، وتقطعت دونه الأسباب، موقن بأن مع العسر يسرا، وأن بعد الليل فجرا، وبعد الضيق فرجا، وبأنه {لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} (يوسف:87) ولا {يقنط من رحمة ربه إلا الضالون} (الحجر:56).

وفي المرتبة التالية يأتي (العلم) وقد اتسم النهج القرآني في دعوته المؤمنين إلى الأخذ بأسباب العلم بالشمولية والعلو فوق المتغيرات النسبية؛ ليناسب كل زمان ومكان، ومن هنا تتميز آياته بتوجهين: الأول: دعوة الإنسان إلى تبصر آيات الله في الكون والنظر فيها، بل النظر في نفسه، والثاني: الإشارة إلى حقائق علمية. ويشدد المؤلف على أن العلم الذي يدعو إليه كتاب الله هو العلم النافع المفيد للبشرية، لا العلم الذي يعمل على إفنائها باختراع أسلحة الهلاك، ويستطرد: "صحيح أن القرآن الكريم دعا المؤمنين إلى الأخذ بأسباب القوة، لكنه في الوقت نفسه حذرهم من استغلال هذه القوة في البطش بالآخرين".

ويكشف المؤلف أهمية العوامل الاقتصادية في قيام الحضارات، لافتا النظر إلى أنه لا يمكن قيام حضارة دون توافر مقومات مادية تعين على قيامها، وتنظيم تشريعي يحول دون اكتنازها لصالح قلة أو فئة، وحرمان القاسم الأعظم من البشر من الاستفادة من خبراتها، ومن هذه المقومات يحدثنا القرآن عن الأرض وما تحفل به من خيرات.

ويرى المؤلف أن أول ملمح في نهج القرآن للنظم السياسية والإدارية، تنظيمه لأمر الولاية، انطلاقا من اعتبارها مسؤولية عظيمة، لا ينبغي أن يتصدى لها إلا القادر على أعبائها، فالولاية ليست تشريفا، وإنما عبء وتكليف، وهي تتحقق بمبايعة سائر المسلمين للولي الأمر مباشرة، أو بتوكيل آخرين ليبايعوا عن من لا تمكنه ظروفه من الحضور والمبايعة. والولاية -بحسب النهج القرآني- تعد نظاما سياسيا راقيا، يحقق للمجتمع العدالة والمساواة والاستقرار.

حضارة تعارف لا حضارة تصادم

يدعو القرآن الكريم إلى مبدأ تعارف الحضارات لا تصادمها، ففي أكثر من آية وموضع يؤكد لنا القرآن الكريم مبدأ الوحدة الإنسانية في المنشأ والميلاد، داعيا إلى إقامة جسور من التعارف والتعاون بين البشر باعتبارهم جميعا جاءوا من أب واحد، وأم واحدة؛ وتعارف الحضارات يؤدي إلى تآلفها وتعاونها، ويفضي إلى الوئام، ويثري الفكر الإنساني، ويلبي حاجات البشر المختلفة؛ وذلك على عكس العولمة التي تعني فناء خصوصية الحضارات داخل حضارة واحدة معينة.

وقد اهتم النهج القرآني اهتماما كبيرا برسم ملامح أساسية للمجتمع المسلم، تساعده على الاستقرار وبناء كيانه الحضاري، الذي تتوافر له المبادئ والقيم القرآنية الخالدة مثل: التوازن، والحركية، والتطور بوجوهه المختلفة، بما يلبي مطالب الإنسان الحياتية، ويزكي نزعته، التي ترفض تصنيف الإنسان على أساس عرقي، أو طبقي، أو مذهبي، وتساوي بين البشر في الحقوق والواجبات، فلا يتميز أحدهم على الآخر إلا بتقوى الله، وقد أولى القرآن الكريم للأسرة جل اهتمامه؛ لأنها خلية المجتمع الأولى، وأطر علاقاتها على أساس توازن دقيق، من خلال رابطة الزواج، التي هي أسمى ألوان ارتباط البشر، فقد وصفها القرآن بـ (الميثاق الغليظ) {وأخذن منكم ميثاقا غليظا} (النساء:22).

عوامل سقوط الحضارة

ينتقل المؤلف في الجزء الآخر من الكتاب إلى عوامل سقوط الحضارة، شارحا أنه هناك الكثير من العوامل التي أدت إلى سقوط حضارات سابقة، كانت مزدهرة في زمانها، حضارات كانت ملء السمع والبصر، لكنها لم تستطع أن تحافظ بقائها وازدهارها، ومثل ما كانت هذه العوامل سببا في قيامها، كتب لها أن تكون سببا في سقوطها أيضا، فالسقوط لا يأتي من الخارج غالبا، لكنه يجئ من داخل الحضارة نفسها. ووفقا للمؤلف، فإن كل التجارب الحضارية تؤكد عبر تطورها أن ثمة درجتين للانحطاط والسقوط: الأولى: الانقلاب النفسي والذهني إلى الأدنى. والثانية: هي درجة الانقلاب العلمي والخلقي بناء على الانقلاب الذهني والنفسي المتدني. فالتغيير الداخلي فكريا ونفسيا، هو المرحلة الأولى في أي سقوط، كما إن فساد الفكر والنفس هو البيئة التي تنمو فيها جراثيم الانحطاط الأخلاقي، وفساد الفكر يؤدي إلى فساد العقيدة.

ويشير المؤلف إلى نماذج تطبيقية لحضارات انهارت، ومنها الحضارة الفرعونية، موضحا أنه لقد أظهرنا القرآن الكريم على جوانب من حضارة الفراعنة ومقوماتها، فقد كانت لهم قدم راسخة في فن العمارة، وفنون الزراعة، والهندسة، والطب، وفنون الجزية، وبرعوا كذلك في فن التحنيط بصورة لم تعرف الدنيا لها مثيلا حتى الآن، كما حققت حضارة مصر القديمة نهضة زراعية كبرى. ولكن بطر وعنجهية فرعون كانت سببا مباشرا لانهيار تلك الحضارة.

وفي ختام الكتاب، يشدد المؤلف على أن الشعوب المسلمة يجب أن تعي أن عالم اليوم لا يحترم سوى الكيانات القوية، أما تلك الضعيفة فلا مكان لها فيه، وإن وجد فهو مكان التابع الذليل، الذي يستجدي السيد بعضا من حسناته، وهو وضع لا يناسب أمة كانت على امتداد قرون ينظر إليها كحاملة المشعل الحضاري.

صدر الكتاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب-القاهرة. وعدد صفحاته (230) صفحة من القطع المتوسط.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة