لا تسألوا الناسَ شيئا

0 1134

ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على العفة عما بأيدي الناس، والحرص على أن لا يسألوا أحدا شيئا، فعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسائل كدوح (جروح وخدوش)، يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء كدح وجهه، ومن شاء ترك) رواه أبو داود. قال الطيبي: "أي يهريق بالسؤال ماء وجهه، فكأنه جرحه". وعن عائذ بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو تعلمون ما في السؤال ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئا) رواه النسائي. وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره، خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه).

والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف والأحاديث في ذم المسألة، وبيان الأجر العظيم ـ وهو الجنة ـ لمن ترك سؤال الناس شيئا، ومن ذلك:
 
ـ عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال صلى الله عليه وسلم: ألا تبايعون رسول الله؟ وكنا حديث عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: ألا تبايعون رسول الله؟ قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله! فعلام نبايعك؟ قال صلى الله عليه وسلم: على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتطيعوا، وأسر كلمة خفية، ولا تسألوا الناس شيئا. قال عوف: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحدا يناوله إياه) رواه مسلم. قال النووي: "فيه التمسك بالعموم، لأنهم نهوا عن السؤال فحملوه على عمومه، وفيه الحث على التنزيه عن جميع ما يسمى سؤالا وإن كان حقيرا، والله أعلم".

ـ عن ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسم قال: (من يكفل لي أن لا يسأل الناس شيئا، وأتكفل له بالجنة؟ فقال ثوبان: أنا، فكان لا يسأل أحدا شيئا) رواه أبو داود وصححه الألباني، وفي رواية: (فكان ثوبان يقع سوطه وهو راكب، فلا يقول لأحد ناولنيه حتى ينزل فيتناوله). قال الآبادي في "عون المعبود": "(وأتكفل له بالجنة): (أتكفل) أتضمن.. وفيه إشارة إلى بشارة حسن الخاتمة. (فكان) ثوبان بعد ذلك (لا يسأل أحدا شيئا) أي ولو كان به خصاصة، واستثني منه إذا خاف على نفسه الموت، فإن الضرورات تبيح المحظورات، بل قيل إنه لو لم يسأل حتى يموت، يموت عاصيا".
 
ـ عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع: أمرني بحب المساكين، والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن لا أسأل أحدا شيئا..) رواه أحمد وصححه الألباني. وفي رواية أخرى قال أبو ذر: (فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل لك إلى بيعة، ولك الجنة؟ قلت: نعم، وبسطت يدي، فقال رسول الله وهو يشترط علي: أن لا تسأل الناس شيئا، قلت: نعم، قال: ولا سوطك إن يسقط منك، حتى تنزل إليه فتأخذه). وفي مجموع الفتاوى لابن تيمية: "وفي المسند: أن أبا بكر كان يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد ناولني إياه، ويقول: إن خليلي أمرني أن لا أسأل الناس شيئا".
 
ـ عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال لي: يا حكيم، إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ (لا أسأل) أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا. فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا، ثم إن عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه، فقال عمر رضي الله عنه: إني أشهدكم يا معشر المسلمين، أني أعرض عليه حقه من هذا الفيء (ما حصل المسلمون عليه من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد)، فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ (يسأل) حكيم أحدا من الناس شيئا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي) رواه البخاري. لقد تأثر حكيم بن حزام رضي الله عنه بقول النبي صلى الله عليه وسلم تأثرا كبيرا، فلم يرزأ (يسأل) أحدا من الناس شيئا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أنه كان لا يسأل خادمه أن يسقيه ماء، ولا يناوله ما يتوضأ به ـ كما ذكر ذلك ابن أبي الدنيا ـ، وظل على ذلك حتى توفاه الله عز وجل.

هذه بعض المواقف والأحاديث النبوية في النهي عن سؤال الناس، وبيان الأجر الكبير في ذلك، فمن أراد تحصيل ما فيها من الأجر العظيم ـ وهو تكفل النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة ـ، فليترك سؤال الناس في القليل والكثير، والجليل والحقير، وليس كل الناس يستطيع فعل ذلك، فما لم يضطر الإنسان إلى سؤاله: لم يسأله، وما دفعته الضرورة إليه، فلا حرج عليه في سؤاله. ولذلك لم يبايع النبي صلى الله عليه وسلم جميع الصحابة عليه، ولم يأمرهم به، وقد استنبط بعض العلماء ذلك من إسراره صلى الله عليه وسلم بعدم سؤال الناس في حديث عوف بن مالك رضي الله عنه الكلمة: (وأسر كلمة خفية، ولا تسألوا الناس شيئا)، قال العيني: "قوله: (وأسر كلمة خفية) يشبه أن يكون صلى الله عليه وسلم أسر النهي عن السؤال، ليخص به بعضهم دون بعضهم ولا يعمهم بذلك، لأنه لا يمكن العموم، إذ لا بد من السؤال، ولا بد من التعفف، ولا بد من الغنى، ولا بد من الفقر، وقد قضى الله تبارك وتعالى بذلك كله، فلا بد أن ينقسم الخلق إلى الوجهين". وقال ابن تيمية: "مسألة المخلوق محرمة في الأصل، وإنما أبيحت للضرورة، وفي النهي عنها أحاديث كثيرة".

لقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على القناعة والعفة، وعدم سؤال الناس شيئا، قال القرطبي: "وأخذه صلى الله عليه وسلم على أصحابه في البيعة أن لا يسألوا أحدا شيئا، حمل لهم على مكارم الأخلاق، والترفع عن تحمل منن الخلق، وتعليم الصبر على مضض الحاجات، والاستغناء عن الناس، وعزة النفوس، ولما أخذهم بذلك التزموه في جميع الأشياء، وفي كل الأحوال حتى فيما لا تلحق فيه منة، طردا للباب، وحسما للذرائع". ولما تربى الصحابة على ذلك، قطع بعضهم عهدا على أنفسهم ألا يسألوا الناس شيئا، وظلوا على ذلك حتى توفاهم الله عز وجل، كأبي بكر الصديق، وأبي ذر، وعوف بن مالك الأشجعي، وثوبان، وحكيم بن حزام وغيرهم، رضي الله عنهم أجمعين.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة