كأس العالم علمني

0 1085

قدر الله أن أزور خلال الشهر الماضي أكثر من دولة، فرأيت لغاتهم متنوعة، واهتماماتهم متباعدة، وألوانهم مختلفة، ولكني وجدت القاسم المشترك بينهم الاهتمام البالغ بكأس العالم!!

فقلت: إن صناعة قضية يؤمن بها الجمهور ويلتف حولها الناس وتضحي من أجلها الشعوب؛ هي مفتاح النجاح.

فقد استطاعوا أن يجعلوا من اللعب قضية دولية، ومن اللاعبين رموزا ونجوما، ومن الملعب ساحة مقدسة لها المهابة والمكانة، في الوقت الذي لم نستطع أن نجعل فيه من قضايانا الكبرى قضية جماهيرية كاملة، ولا من مقدساتنا المحتلة، ولا من دمائنا المراقة بغير حق، ولا من آلامنا القصوى، ولا من أموالنا وأعراضنا المنتهكة قضية!!

- رأيت الحرص على حضور المباريات في وقتها دون تأخر، فأدركت أننا نحتاج إلى إيمان بالصلاة والزكاة كإيماننا بوقت المباريات، وتركيز كامل في العبادات كتركيزنا الكامل في المباريات، وتذكرت حديث النبي عن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (ورجل قلبه معلق بالمساجد)، فأدركت الفارق.

- رأيت أن يوم المباراة يوما للحصاد وليس يوما للأمنيات، يوما لجني ثمار تدريب شاق، وخطة خبير محكمة، وصراع تملكت أدواته، وأحطت بمعلوماته، وأدركت إمكاناته، فلم تفاجأ بمكر منافسك، ولا بطش مهاجمك، بل أعددت لكل أمر عدته.

- رأيت أن الجمهور لا يستغنى عنه في هزيمة ولا نصر، فبه تعلو الهمة وتزداد القوة وتعود الروح وثابة.. ففي الهزيمة دافع للانطلاق وداعم للتعويض، وملهم للإبداع، ومساند للإنجاز، وفي النصر تكون فرحته الجائزة وسعادته بمثابة النياشين والأوسمة.

- رأيت صدق الانتماء، فمن يشجع فريقا يحزن لحزنه، ويفرح لفرحه، ويهتم بأمره، ويرفع علمه ويتحلى بزيه، ويتلقف كل خبر عنه، ويبحث تفاصيل نجومه، وتاريخ نجاحه وإنجازاته، في الوقت الذي رأيت فيه من ينتمون للإسلام ولا يهتمون بأهله، ولا يعرفون فرضه من نفله، ويحاربون رايته، ويعادون علماءه ورموزه، ولا يعلمون تاريخه وإنجازاته ورجاله!!

- رأيت أن الدفاع لا يصلح بلا هجوم، والهجوم لا يصلح بلا نجوم، وكلاهما لا يصلح بلا حارس قوي أمين، وجميعهم لا يصلح، بل خط وسط يكون حصنا للأمان ومصدرا للدعم، وضمانا للتوازن والتماسك.

فقلت: أين دفاع الأمة عن دينها، ومقاومتها لأعدائها، وحراستها لعقيدتها، وحرصها على رابطة مجتمعها ووحدة صفها؟!

- رأيت أن التخصص معلم للنجاح، فلم أر مدربا ينزل ليلعب، ولا حكما يحرز أهدافا، ولا حارسا يترك مهمته، ولا مهاجما يغفل عن هدفه، ولا مدافعا يتآمر مع خصمه.

فقلت: أين استثمار الأمة لطاقاتها المبدعة، وتوجيهها لإمكاناتها المتنوعة، واحترامها للخبرات العميقة والتخصصات الدقيقة!!

- رأيت أن الهزيمة في مباراة أو حتى الخروج من المنافسة لا يعني نهاية العالم، ولا يعني أن يظل الفريق حبيسا لأحزان الفرص التي ضاعت، والأيام التي كانت، ولكنه سرعان ما يعد بكل حماس للقاء قادم، ويسعى بكل أمل لنتيجة أفضل، وفي ترقب لفرصة سانحة.

فقلت: ألم ندرك أن المسلم لا يخلو من إحدى حالتين: إما أن يكون في مواجهة مباشرة مع خصومه المعتدين، أو في إعداد كامل للتضحية عند الضرورة بكل غال وثمين؟

- رأيت أن الفرق التي هزمت تخلصت على الفور من مدربيها مهما كانت أسماؤهم، وأنهت عقود المدراء مهما كان تاريخهم، واستغنت عن لاعبين مهما كانت إنجازاتهم، ودرست أسباب هزيمتها دون تدليس، واعترفت بأخطائها دون صلف، وأعدت أشبالها لانطلاقة جديدة دون ملل.

فقلت: لم أر أحدا يسمي الفشل نصرا غيرنا، ويستمسك بقيادته كلما زاد فشلها سوانا، ويعض بالنواجذ على من تسببوا في الهزيمة كحالتنا، ويستغني عن أشباله الواعدين ونجومه المرتقبين لحساب من لم يحرزوا هدفا إلا في أنفسهم، ولم يشنوا هجوما كاسحا إلا على من ينتقدهم، ولم يكونوا أسودا مغاوير إلا على أهلهم!!

أخيرا أقول: إن الأهداف بعض انتهاء المباريات لا قيمة لها، والارتكان إلى أخطاء الخصم دون إعداد لانتهاز الفرص بلاهة، والرهان على الوقت الضائع لا يصنع نصرا، والارتكان على كثرة الجمهور لا يحقق فوزا، والبكاء بعد صافرة النهاية لا يجدي نفعا، واللعب بالمصابين جريمة، والمفاجأة بقوة الخصم حماقة.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة