قولوا: سمعنا وأطعنا

0 753

السيرة النبوية زاخرة بالكثير من الصور والأمثلة الدالة على شدة تعظيم الصحابة رضوان الله عليهم لأمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ومسارعتهم إلى السمع والطاعة، فكان لسان حالهم ومقالهم ـ في العسر واليسر، والمنشط والمكره ـ : (سمعنا وأطعنا)..
ومن الأمثلة الدالة على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير}(البقرة:284)، قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين (اليهود والنصارى) من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم، ذلت (لانت) بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}(البقرة:285)، فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى، وأنزل الله عز وجل: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال: نعم، {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلناقال: نعم، {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} قال: نعم، {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين}(البقرة: 286) قال: نعم) رواه مسلم.

قال النووي: "قال أبو إسحاق الزجاج: هذا الدعاء الذي في قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}(البقرة:286) إلى آخر السورة أخبر الله تعالى به عن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وجعله في كتابه ليكون دعاء من يأتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، فهو من الدعاء الذين ينبغي أن يحفظ ويدعى به كثيرا.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه)، قيل: كفتاه من قيام تلك الليلة، وقيل: كفتاه المكروه فيها، والله أعلم".
 وقال ابن هبيرة: "في هذا الحديث من الفقه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمهم الأدب بأن يقولوا عند تكليف الرب سبحانه: (سمعنا وأطعنا)، ونهاهم صلى الله عليه وسلم عن غير ذلك"، وقال ابن عثيمين: "أهل الكتابين هم اليهود والنصارى. فاليهود كتابهم التوراة، وهي أشرف الكتب المنزلة بعد القرآن. والنصارى كتابهم الإنجيل وهو متم للتوراة. واليهود والنصارى عصوا أنبياءهم وقالوا: "سمعنا وعصينا"، فهل تريدون أن تكونوا مثلهم؟ (ولكن قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير). هكذا يجب على المسلم إذا سمع أمر الله ورسوله أن يقول: (سمعنا وأطعنا) ويمتثل بقدر ما يستطيع، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها".

وقال السعدي في تفسيره: "لما نزل قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}(البقرة:284)، شق ذلك على المسلمين لما توهموا أن ما يقع في القلب من الأمور اللازمة والعارضة المستقرة وغيرها مؤاخذون به، فأخبرهم بهذه الآية أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها أي: أمرا تسعه طاقتها، ولا يكلفها ويشق عليها، كما قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}(الحج:78)، فأصل الأوامر والنواهي ليست من الأمور التي تشق على النفوس، بل هي غذاء للأرواح ودواء للأبدان، وحمية عن الضرر، فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة وإحسانا، ومع هذا إذا حصل بعض الأعذار التي هي مظنة المشقة حصل التخفيف والتسهيل، إما بإسقاطه عن المكلف، أو إسقاط بعضه كما في التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهم".
وذكر الطبري في تفسيره عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه لما قرأ قول الله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} قال: "هم المؤمنون، وسع الله عليهم أمر دينهم فقال: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}(الحج:78)، وقال: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}(البقرة:185)، وقال: {فاتقوا الله ما استطعتم}(التغابن:16)". وقال القرطبي: "قوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون}(البقرة:285)، روي عن الحسن ومجاهد والضحاك: أن هذه الآية كانت في قصة المعراج".

إن موقف النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ـ رضوان الله عليهم ـ حين أنزل الله تعالى قوله: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله}(البقرة:284)، وأمره لهم أن يقولوا: (سمعنا وأطعنا)، وسرعة استجابة الصحابة لأمره صلى الله عليه وسلم لهم بالسمع والطاعة، وقولهم: (سمعنا وأطعنا)، ثم نزول قوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت}(البقرة: 286): فيه بيان لما أكرم الله تعالى به هذه الأمة، وخففه عنها، مما كان على غيرهم من أهل الكتاب السابقين من المشاق والأغلال، وبيان ما كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم من اليقين الثابت والإيمان الراسخ الذي كان يدفعهم دائما إلى الانقياد لأحكام الشرع، والمسارعة لاستجابتهم لأمر الله عز وجل وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم والتسليم له، ولو كان في ظاهره مشقة، أو كان مخالفا لعقولهم. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة