- اسم الكاتب:هشام الحمامي
- التصنيف:ثقافة و فكر
يعتبر نور الدين محمود (1118-1174م) رائدا كبيرا من رواد النهوض وإصلاح المسار في تاريخ أمتنا. كان ذلك في توقيت عصيب أخذ خط الصعود فيه يتوقف ويتوقف، ثم بدأ يميل ويميل..
إنه القرن السادس الهجري (12 ميلادي) والذي كانت تجرى فيه تحولات هائلة على مستوى العالم الإسلامي كله (مذهبيا وسياسيا وفكريا وتعليميا..)، وفي وقت من أشد الأوقات عسرا وتدهورا (كما قلنا) على المستوى الحضاري الواسع. فقد كانت ظلمة الجهل أكداسا بعضها فوق بعض، وكانت الغفلة عن سنن الحياة وقوانين التاريخ هواء يتنفسه الناس وماء يشربونه كل صباح. وسيحتفظ التاريخ في انصع صفحاته؛ بالدور الكبير الذي قام به سلاطين السلاجقة ووزراؤهم (1037-1194) في إدراك سؤال النهضة الكبير. لم يكن الأمر سهلا نهلا صفاء زلالا، بل كان هناك البشر وشهوات البشر وزوابع الشر ومنابع الخير في البشر.
كانت البداية التعليمية والتربوية هي ما ألهمهم بها رب الناس؛ الذي علم ما في نفوسهم من عزم حقيقى للتغيير الجاد، فأذن لهم سبحانه بالتغير . وكما بدأت، ستبقى، وفي التاريخ درس ومعتبر . وأشرقت أنوار المدارس النظامية (1066م) عن عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين، وهم في الأصل أبناء بيوتات عريقة وأسلاف مجاهدين، فكانوا كالضوء الذي ينير كوامن النفوس البائسة. وكان أن فتحوا صفحات ذاكرتنا ليكتبوا فيها بجهادهم الصادق أخطر وصية للأجيال التالية؛ وصية جديرة كل الجدارة بأن تعلق على أستار الزمن.
أدرك نور الدين محمود، بعد انتقال أبيه (عماد الدين)، أن الإيمان هو القوة هائلة والرافعة الكبرى لمقدرات الأمم ومستقبل الشعوب، ناهيك عن كونه القوه النفسية الكبرى التي تحيى القيم وثوابت الأخلاق في واقع الناس وحياتهم، وتجعل لهذه الحياة معنى وغاية، فأكمل البناء عاليا وعمل على إقامة المدارس والمساجد حتى بلغت المئات. فلم تكد تخلو منها بلد من البلاد التي يحكمها، وكان سخيا في الإنفاق عليها، دقيقا في اختيار شيوخها ومعلميها، وأوقف عليها الأوقاف الكثيرة. وكانت تلك المدارس تهدف إلى صناعة "الرجال"، علما وخلقا بالدرجة الأولى، فعنيت أساسا بالقرآن والحديث، وما يتبع هذه العلوم مما تنهض به النفوس وتعلو به الهمم.
خرجت المدارس النظامية علماء ومفكرين فطاحل (الشيرازى والجوينى والغزالي وابن عساكر والعز بن عبد السلام.. إلخ). يحدثنا ابن الأثير عن نور الدين قائلا: "فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز؛ أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين، ولا أكثر تحريا للعدل والإنصاف منه. قد قصر ليله ونهاره على عدل ينشره، وجهاد يتجهز له، ومظلمة يزيلها، وعبادة يقوم بها، وإحسان يوليه، وإنعام يسديه". وغير ذلك، كان ذا عقل استراتيجي كبير، فقد علم أن معركته مع "جوسلين"، القائد الصليبي الذي حاول استرداد مدينة "الرها"، أول مدينة حررها المسلمون من أيدي الصليبيين بعد احتلال 46 سنة (1098-1144)، لم تكن مجرد معركة حول مدينة بل كانت تأسيسا لعصر جديد ومرحلة مختلفة من مراحل الصراع، بدأت بقطع أيديهم عن استردادها، وانتهت بقطع أيديهم عن الوصول إلى مصر (المركز الكبير في دائرة الصراع كله)، تخلل ذلك توحيد بلاد الشام كلها تحت قيادة واحدة.
ولنا أن نعلم أن حاكم دمشق كان يدفع ضريبة للصليبيين لحمايته، فكان أن قضى الرجل على كل هذه المهانات، وضم دمشق إلى حكمه، واستطاع بقوه أن يرد الحملة الصليبية الثانية (حمله لويس وكونراد). وبيقين القادة العسكريين الكبار، أدرك بحس استراتيجي عال أن أمن مصر والشام موصول بعضه بعضا بعلاقة عضوية على طول الخط، من الإسكندرونة حتى الإسكندرية (ارجعوا لنظريات الأمن القومي الحديثة، جمال حمدان وحامد ربيع.. إلخ). وفي عام 1169م، أرسل نور الدين؛ أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين إلى مصر لتوحيدها مع الشام. وكان لدخول مصر تحت حكم نور الدين محمود أثرا مدويا، لا في الممالك الصليبية وحدها، بل في أوروبا كلها.. وكانت فرحه العالم الإسلامي بذلك فرحة عارمة لم يشهدها تاريخهم الحزين من سنوات وسنوات، وتولى شيركوه الوزارة عند الخليفة الفاطمي (العاضد الذي توفي وهو ابن 20 عاما، 1151-1171) آخر الخلفاء الفاطميين..
وجاء صلاح الدين.. ولأنه وكما يكون دائما، قلما يتوقف الذين يهبطون إلى المنحدر إلا إذا وصلوا للحضيض الأسفل، فكان لا بد من طى صفحة طيا عاجلا وفتح أخرى فتحا كاملا. فقد تبين لصلاح الدين، بتشاور طويل مع نور الدين، أن المنظومة الحاكمة كلها في مصر قد فسدت حتى تعفنت، ولا بد من اجتثاثها أعماقا أعماقا. ونجح صلاح الدين الأيوبي في تحضير أصعب وأهم رقم في المعادلة (العوام من الناس)، فكان الأمن والعدل والكفاية. وعليه، فقد وثق به الناس وأعطوه مثل ما أعطاهم وجازوه مثلما جازاهم، فثبتت أقدامه في البلاد، وهو ما تم بالفعل، وليبدأ ميلاد جديد، إذ كان العالم الإسلامي يمور حاملا في أحشائه "بطلا" يتعجل ساعة قدومه.. وقد كان، فينتقل نور الدين محمود إلى رحمة ربه في أيار/ مايو 1174م عن ستة وخمسين عاما، بعد أن شق المسار في اتجاهه الصحيح.