مسرفون بلا هدف

0 1053

في الوقت الذي يعيش فيه ملايين من المسلمين حول العالم في أشد حالات الفقر والحاجة، ويموت مئات الآلاف منهم سنويا بسبب الجوع والمرض، وفي الوقت الذي تدمر فيه العديد من بلاد المسلمين بأيدي المجرمين والعابثين واللاعبين والمنتفعين، ويهجر أهلها ليعيشوا في خيام إيواء أو يعيش بعضهم في العراء لا يجد مأوى يستره من برد ومطر وصقيع الشتاء وحر الصيف، وأكثرهم يتسول قوته وقوت من نجا معه من الموت من أهله وأسرته.

وفي الوقت الذي يعاني فيه فئام كثيرة طوفانا أو فيضانا كما في الهند وبلاد البنجال، فتهدم البيوت ويشرد الناس.. ومنهم أعني من المسلمين من يعيش التهجير القسري والقهر الحياتي كما حال مسلمي الروهينجا.

في هذا الوقت الذي يعاني فيه كل هؤلاء وغيرهم نجد من يخرج علينا ممن ينتسب لهذه الأمة وهذا الدين يؤذي مشاعرنا بلقطات أخدها لنفسه ليوثق بها تصرفات تدمى القلب والنفس قبل أن تؤذي العين، وتؤلم شعور كل إنسان عاقل، فضلا أن يكون مسلما، فضلا أن يكون فقيرا محتاجا.

رجل يعرض علينا سيجاره الذهبي عيار أربع وعشرين، والذي يتكلف كذا وكذا، كأنه لا يكفيه أن يعصي ربه بشرب الدخان، ولكن يتباهى بإنفاق الآلاف أو مئات الآلاف على عصيانه، وينفثها في الهواء.

ورجل يظهر لنا مقطعا وهو يوقد سيجارته بورقة مالية ذات العشرة دنانير، ويتباهى بذلك وبكثرة ماله، ويشمت في الفقراء والمساكين والموظفين الذين ينتظرون راتبهم الذي بذلوا فيه جهدهم شهرا كاملا.

وآخر يغسل أيدي مدعويه بعد الوليمة الفاخرة فيغسل لهم أيديهم بأفخر أنواع العود (ومتى كان العطر لغسل الأيدي من الطعام) ولكنه طلب الشهرة والكبر والمخيلة.

وآخر يصنع وليمة لأحد الأكابر فينحر له من الذبائح ما يعلم كل أحد أنه ليس للكرم وإنما للخيلاء ولأجل فلان، ويعلم كل أحد أن نهاية الطعام ستكون في مكبات الزبالة وأماكن النفايات.

وأسوء من كل هؤلاء مقطع لثري يصور نفسه وهو يطعم نعاجه وأنعامه الأوراق المالية.

ولو صورنا لكم ما يحدث في الأعراس من سرف ومخيلة، كذاك الذي جعل يرمي الأوراق ذات الخمسمائة ريال على رأس الراقصة أو المغنية في غرابة شديدة من كل من رأى المقطع. مسلسل سفاهات لا حد له ولا نهاية.

وهؤلاء وإن كانوا قد بلغوا من سفاهة العقول وسوء التصرف ما يؤذن بقرب زوال النعم؛ لأنهم لم يحفظوها بل اتبعوا خطوات إبليس في التعامل معها {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا}، مع أن كل عاقل يعلم أنهم تعدوا حد البذخ والتبذير إلى حد السفاهة والحمق.

أقول رغم أنهم بلغوا من السفاهة ما يؤذن بقرب زوال النعمة كما هي سنة الله في خلقه، إلا إنهم أيضا ومن جهة أخرى قد ضيعوا على أنفسهم أبواب أجر كبير وثواب عظيم كان يمكنهم تحصيله لو وجهوا هذه الأموال إلى أبواب الخير وخدمة الإسلام والمسلمين.

لن أنقل إليك ولا إليهم إحصائيات بعدد مرضى الكلى في بلاد المسلمين الذين يحتاجون إلى وحدة لغسيل الكلى تنقذ حياة المئات أو الآلاف من مرضى الكلى.

ولن أتكلم عن مرضى السرطان الذي أصبح كالإنفلونزا في بلاد المسلمين، ولا الكبد الوبائي.. ولن أتكلم عن أصحاب الحاجات والمساكين والذين يتمنى أحدهم أن يعرف معنى اللحم أو يراه فضلا عن أن يتذوقه.

لكنني سأترك ذلك كله لأنقل لك صورة من مجاهل أفريقيا؛ ليعلم كل قارئ ومطلع معنى التوفيق من معنى الخذلان، وكيف يكون التعامل مع النعمة وما يمكن أن يجره ذلك على صاحبه.

الصورة سجلها لنا الدكتور عبد الرحمن السميط ـ رحمه الله ـ ذلك الرجل الطبيب المسلم الكويتي الموفق، الذي قضى حياته بين الأدغال وفي القفار وبين مستنقعات الغابات يبحث عن إنسان يستنقذه من الوثنيات والجاهليات ومجاهل الشرك والظلمات يأخذ بيده وأيدي غيره إلى نور الإيمان وحلاوة الإسلام.. فأسلم على يديه ما تخطى الأرقام ذات الستة أصفار، وبنى مساجد ومدارس وجامعات، ومستشفيات أو مراكز طبية وحفر آبارا بالآلاف أحيا بها بلادا وأجسادا وقبل هذا أحيا قوما بالإسلام وبنى نفوسا بالإيمان، هذا كله دون ضجيج ولا صوت ولا مقاطع يوتيوبية، ولا لقطات على الانستجرام ليرى الناس ما يفعل ولا ظهور فضائي.. بل كل ذلك في صمت، يرجو ثواب الله.. فجزاه الله عن دينه خير الجزاء.

يحكى الدكتور عبدالرحمن السميط الطبيب يقول: كنت أقف ذات يوم، فسمعت بكاء سيدة إفريقية ونحيبها وتوسلاتها لأحد الأطباء ـ القائمين على مساعدة الأطفال الصغار وعلاجهم في بعثتنا في إفريقيا، وللحق فقد تأثرت لشدة إصرار الأم وتمسكها بتحقيق مطلبها، فتحدثت مع الطبيب فقال لي: إن ابنها الرضيع في حكم الميت، وحالته متأخرة جدا وهو ضعيف جدا ولن يعيش حسب ما تنبئ حالته، وهى تريدني أن أضمه لأعداد الأطفال الذين سنرعاهم، وما سأنفقه عليه مال لا طائل منه، إنه طفل لن يعيش إلا لأيام والمال أولى به غيره، فقال: نظرت لي الأم ـ والطبيب يحكى لي ـ بنظرات توسل واستعطاف، فقلت للمترجم: اسألها كم تحتاج من المال كل يوم؟ فقالت: له المبلغ وجدته ثمن مشروب غازي في بلدي. (وللأمانة فقد سمعت الدكتور في شريط يحكي هذه القصة، فقال: وكانت وجبة الطفل تكلف 15 هللة، وكرهت أن أدفع من مال الله مثل هذا المبلغ من غير طائل فيكون تضييعا لأموال الفقراء التي استأمنني عليها الناس والله قبلهم)؛ فقلت: لا مشكلة سأدفعه من مالي الخاص، وطمأنتها. فأخذت تريد أن تقبيل يدي فمنعتها، وقلت لها خذي هذه نفقة عام لابنك، و أشرت لأحد مساعدي وقلت: هو سيعطيك ما تحتاجيه. ووقعت لها على صك لتصرف به المبلغ المتفق عليه.

تمر الشهور والسنوات وللحق أنا اعتبرته فعلا طفلا ميتا، وإنما فعلت ما فعلته لكي أهدئ الأم المسكينة فقط ـ خاصة وهي حديثة عهد بالإسلام ـ ونسيت الموضوع برمته.

بعد أكثر من ١٢عام كنت في المركز وحضر لي أحد الموظفين وقال لي: هناك سيدة إفريقية تصر على لقائك، وأتت عدة مرات. فقلت له: أحضرها. فدخلت سيدة لا أعرفها، ومعها طفل جميل الوجه هادئ، وقالت لي: هذا ابني عبد الرحمن أتم حفظ القرآن وكثير من أحاديث الرسول، وحلمه أن يصبح داعية للإسلام معكم.

تعجبت وقلت لها: ولماذا تصرين على هذا الطلب منى؟ ولم أكن أفهم شيئا، ونظرت للطفل الهادئ فوجدته يتحدث العربية وبلغة هادئة، فقال لي: لولا الإسلام ورحمته ما كنت أنا أعيش وأقف بين يديك الآن، فقد حكت لي أمي قصتك معها وإنفاقك على طيلة مدة طفولتي وأريد أن أكون تحت رعايتك، وأنا أجيد اللغة الإفريقية وأعرفها تماما، وأحب أن أعمل معكم كداعية لله، ولا أحتاج إلا طعامي فقط، وأحب أن أسمعك تلاوتي للقرآن ـ وأخذ يتلو آيات من سورة البقرة بصوت شجى، وعيناه الجميلتان تنظر لي متوسلة أن أوافق ـ وهنا تذكرت المرأة وقصة الطفل، وقلت لها: هل هذا هو ذلك الطفل الذى رفضوا ضمه للرعاية؟ فقال: نعم نعم.. ولذلك أصرت أمي أن تقدمني لك، بل ولقبتني باسمك عبد الرحمن.

يقول الدكتور السميط قدماي لم تحملاني وخررت على الأرض لهول الفرحة والمفاجئة، وسجدت لله وأنا أبكى وأقول ثمن مشروب غازي يحيي نفسا ويرزقنا بداعية لله نحتاجه؟!!! كم من أموال ننفقها بلا طائل.
هذا الطفل أصبح من أكثر دعاة إفريقيا بين قبائلها شهرة وقبول لدى الناس.
كم هي جميلة جنة الله، وكم هو سهل التقرب إلى الله، وكثيرا لا يكلف!!
وكم من صدقة قليلة حولت حياة ناس كثير وجعلتهم أكثر سعادة!!
وكم نحن مسرفون بلا هدف.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة