الصيام في الجهاد والسفر في السيرة النبوية

0 660

جاء الهدي النبوي بالتخفيف في الأحكام والترخيص في العبادات للمسافر، ومن ذلك قصر الصلاة الرباعية، والجمع بين الصلاتين، والمسح على الخفين، والفطر إذا شق الصوم وترتب عليه ضرر، وقد سافر وجاهد الصحابة رضوان الله عليهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمنهم من صام، ومنهم من أفطر، ولم يعب بعضهم على بعض، والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف والأحاديث الدالة على ذلك، ومنها: 

ـ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمنا الصائم، ومنا المفطر، فلا يجد (لا يعترض ولا يعيب) الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام، فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر، فإن ذلك حسن) رواه مسلم. قال القاضي عياض: "وما ذكر فى الأحاديث من فطر أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وصومهم فى السفر، وأنه لم يعب بعضهم على بعض، كله دليل على إجماعهم على جواز الأمرين".

ـ وفي قصة عمير بن الحمام رضي الله عنه في غزوة بدر وكانت في شهر رمضان من العام الثاني للهجرة النبوية الشريفة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، فقال عمير بن الحمام الأنصاري رضي الله عنه: يا رسول الله! جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: نعم، قال: بخ بخ (كلمة تقال عند المدح والرضى)، فأخرج تمرات من قرنه (جعبته)، فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه، إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل رضي الله عنه) رواه مسلم.
ـ وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة فى رمضان، فصام حتى بلغ كراع الغميم، وصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: أولئك العصاة، أولئك العصاة) رواه مسلم. وهذا محمول على من تضرر بالصوم، قال الطيبي: " (أولئك العصاة) مرتين، وهذا محمول علي من تفرد بالصوم، وأنهم أمروا بالفطر أمرا جازما لمصلحة بيان جوازه، فخالفوا".

ـ وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ونحن صيام، قال: فنزلنا منزلا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم قد دنوتم من عدوكم والفطر أقوى لكم، فكانت رخصة، فمنا من صام ومنا من أفطر، ثم نزلنا منزلا آخر فقال: إنكم مصبحوا عدوكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا، وكانت عزمة فأفطرنا. ثم قال: رأيتنا نصوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في السفر) رواه مسلم. وأما عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يصوم يوما في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفا)، قال النووي: "فيه فضيلة الصيام في سبيل الله وهو محمول على من لا يتضرر به، ولا يفوت به حقا، ولا يختل به قتاله ولا غيره من مهمات غزوه، ومعناه المباعدة عن النار والمعافاة منها، والخريف السنة والمراد سبعين سنة". وقال ابن القيم: "وكان يأمرهم بالفطر إذا دنوا من عدوهم ليتقووا على قتاله".

ـ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى رمضان، فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بإناء من ماء فشرب نهارا ليراه الناس، فأفطر حتى قدم مكة. وكان ابن عباس يقول: صام رسول الله صلى الله عليه وسلم فى السفر وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر) رواه البخارى. قال ابن القيم في زاد المعاد: "وسافر رسول الله صلى الله عليه و سلم في رمضان فصام وأفطر وخير الصحابة بين الأمرين".

وقد بوب البخاري في كتاب الصوم: "باب الصوم في السفر والإفطار، ثم بوب بعده: باب: "قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن ظلل عليه واشتد الحر: ليس من البر الصيام في السفر". فأورد في الباب الاول حديث حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام، فقال:إن شئت فصم وإن شئت فأفطر) رواه البخاري. وحديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحد ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة).. وفي الباب الثاني (ليس من البر الصيام في السفر) أورد حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: صائم فقال: ليس من البر الصوم في السفر)، قال ابن حجر في فتح الباري: "وبما أشار إليه ـ البخاري في تبويبه ـ من اعتبار شدة المشقة يجمع بين حديث الباب والذي قبله". وقال:"وفي الحديث استحباب التمسك بالرخصة عند الحاجة إليها وكراهة تركها على ترك التشديد والتنطع". وقال السندي: "(ليس من البر) أي من الطاعة والعبادة".

أيهما أفضل: الصيام أم الفطر في السفر :

إذا كان الصوم والفطر سواء، بمعنى أن الصوم لا يسبب للمسافر ضررا، ففي هذه الحالة يكون الصوم أفضل، وذلك لما رواه البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة). ومن المعلوم أن صيام المسافر في رمضان ـ لمن يستطيعه ويقدر عليه ـ أسرع في إبراء الذمة بصيامه لشهر وأيام رمضان، ومن يصوم في السفر يدرك الزمن الفاضل وهو رمضان، فإن رمضان أفضل من غيره، ولهذا يترجح ما ذهب إليه البعض من أن الصوم أفضل في حق من يكون الصوم والفطر عنده سواء، ولا يتأثر تأثرا يضره بالصيام وهو في سفره.
قال النووي: "وقال جماهير العلماء وجميع أهل الفتوى يجوز صومه في السفر وينعقد ويجزيه، واختلفوا في أن الصوم أفضل أم الفطر، أم هما سواء؟ فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي والأكثرون: الصوم أفضل لمن أطاقه بلا مشقة ظاهرة ولا ضرر، فإن تضرر به فالفطر أفضل، واحتجوا بصوم النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة وغيرهما وبغير ذلك من الأحاديث، ولأنه يحصل به براءة الذمة في الحال".
وقال ابن حجر: "فالحاصل أن الصوم لمن قوي عليه أفضل من الفطر، والفطر لمن شق عليه الصوم، أو أعرض عن قبول الرخصة أفضل من الصوم، وأن من لم يتحقق المشقة يخير بين الصوم والفطر".

بعض الناس يظن أن قصد وتكلف المشقة والتعب ـ وإن لم يكن مأمورا بها ـ، يحصل به الأجر والثواب الكبير، وهذا المعنى نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه ربما يترتب عليه ضرر أو تقصير في العبادة، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: (القصد القصد تبلغوا) رواه البخاري. قال القاضي عياض: "أي الزموا الأمر الوسط في العمل تصلوا ما تقصدونه". فليس مدار الأمر على كثرة العبادة والمشقة التي لم يؤمر بها، ولكن مدار الأمر على الإخلاص لله عز وجل واتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأوامره، قال الله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}(البينة:5)، وقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}(الأحزاب:21)، وقال سبحانه: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}(الحشر:7)، وقال مالك: "السنة سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق".

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة