هل أنت راض عن نفسك؟

0 1850

الحمد لله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، يرفع بالكتاب أقواما ويضع آخرين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

يقول ابن عطاء الله السكندري: أصل كل معصية وشهوة الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة عدم الرضا منك عنها.انتهى.

فحري بالعبد أن يكون متواضعا مع ربه عز وجل دائم الحذر عالما بأنه مهما أطاع ربه عز وجل وقام بواجب العبودية فإنه بفضل الله تعالى ورحمته، وأنه لا يجزي ربه ولا بنعمة واحدة مما أنعم به عليه سبحانه وتعالى.

فإذا أيقن العبد بذلك انكسر لربه وازداد له طاعة وخضوعا ولم ير لنفسه فضلا ولا قدرا فيما بينه وبين والله.

قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في مدارج السالكين: العارف لا يرضى بشيء من عمله لربه، ولا يرضى نفسه لله طرفة عين ويستحيي من مقابلة الله بعمله... وكان بعض السلف يصلي في اليوم والليلة أربعمائة ركعة ثم يقبض على لحيته ويهزها ويقول لنفسه: يا مأوى كل سوء وهل رضيتك لله طرفة عين. وقال بعضهم: آفة العبد رضاه عن نفسه، ومن نظر إلى نفسه باستحسان شيء منها فقد أهلكها، ومن لم يتهم نفسه على دوام الأوقات فهو مغرور. انتهى.

فلا أحد يضمن حصول رضا الله عنه، ولا يأمن سخطه ومكره، أو يتأكد من قبوله له، وقد وصف الله تعالى السابقين بالخيرات فقال: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون* أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون} (المؤمنون:60-61)، قالت عائشة رضي الله عنها: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: "لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم". (رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني).

إن تزكية النفس بمدحها والرضا عنها في علاقتها بربها تبارك وتعالى مما يخالف التوجيهات الربانية، والله تعالى يقول: { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى } (النجم: 32). أي لا تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم وبطهارة أنفسكم من المعاصي والرذائل.

وقد أنكر الله تعالى على اليهود الذين كانوا يأتمون في صلاتهم بالصبيان بزعم أن هؤلاء الصبيان غير مؤاخذين وأن الله تعالى لن يؤاخذ هؤلاء البالغين بما اكتسبوا طالما أنهم يأتمون بهؤلاء الصغار فقال عز وجل: { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا. انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا} (النساء:49-50).

وحين زعم أهل الكتاب أنهم أبناء الله وأحباؤه كذبهم الله تعالى ورد عليهم بقوله: {قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير} (المائدة:18).

وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لن يدخل أحدا عمله الجنة" قالوا: ولا أنت يا رسول الله ؟ قال: "لا، ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة، فسددوا وقاربوا..".(رواه البخاري).
فهل يحق لمن هو دونه أن يمدح نفسه ويظن بها النجاة؟!.

إن السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم كانوا رغم اجتهادهم في طاعة الله تعالى لا يزكون أنفسهم ولا يمدحونها ولا يمنون بأعمالهم.

فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه السابق إلى الإسلام خليفة رسول الله، المبشر بالجنة بل هو سيد من ساداتها يدخل عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيراه ممسكا بلسانه يجذبه بشدة فيقول له عمر: مه! فيقول أبو بكر: هذا الذي أوردني الموارد (موارد الهلكة).

وهذا عمر بن الخطاب، الفاروق الذي فرق الله به بين الحق والباطل، الرجل الذي إذا رآه الشيطان سالكا طريقا أخذ طريقا آخر وهو فوق ذلك من المبشرين بالجنة يأتي حذيفة رضي الله عنه فيقول له: أسماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين؟ وحين طعن وحمل إلى البيت وضع ابنه عبد الله رأسه على فخذه فقال له عمر: ويحك، ضعه على الأرض عساه يرحمني!.

وعبد الله بن مسعود الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم حين ضحك بعض الحاضرين من دقة ساقيه فقال: "والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد" هذا الصحابي الجليل يقول لبعض من حوله: لو علمتم ما أغلق عليه بابي ما تبعني منكم رجلان. ولقد كان يغلق بابه على تلاوة القرآن وقيام الليل والصلاة والدعاء، لكنه اتهام النفس بالتقصير فيما بينها وبين الله تعالى والابتعاد عن تزكية النفس ومدحها والرضا عنها.

أما أبو الدرداء فإنه لما مرض ودخل عليه بعض أصحابه يعودونه فقالوا: أي شيء تشتكي؟ قال: أشتكي ذنوبي. فقالوا: أي شيء تشتهي؟ قال: الجنة.

ولقد كان التابعون الذين تربوا على أعين الصحابة، ومن بعدهم من العلماء والصالحين على حال عجيب من اتهام النفس بالتقصير، هذا الحسن البصري – رحمه الله تعالى – كان كثيرا ما يعاتب نفسه ويوبخها بقوله: تتكلمين بكلام الصالحين القانتين العابدين ،وتفعلين فعل الفاسقين المرائين، والله ما هذه صفات المخلصين. وكان يقول: صاحبت أقواما فكنت بجنبهم كاللص.

وهذا محمد بن واسع رحمه الله ـ العابد الزاهد ـ قيل له: كيف أصبحت أبا عبد الله ؟ قال: قريبا أجلي، بعيدا أملي، سيئا عملي.
وكان يقول: إنما هو عفو الله أو النار.

وحج سالم بن عبد الله بن عمر فزاحم رجلا فقال له الرجل: يا مرائي، فالتفت إليه سالم وقال: ما عرفني إلا أنت!.

وكان أيوب السختياني يقول: إذا ذكر الصالحون كنت منهم بمعزل.

وكان بكر بن عبد الله المزني إذا رأى شيخا قال: هذا خير مني ،عبد الله قبلي، وإذا رأى شابا قال: هذا خير مني ارتكبت من الذنوب أكثر مما ارتكب.

وكان يوصي فيقول: إن عرض لك إبليس فقال إن لك فضلا على أحد من أهل الإسلام فانظر ؛ فإن كان أكبر منك فقل: قد سبقني هذا بالإيمان والعمل الصالح فهو خير مني، وإن كان أصغر منك فقل: قد سبقت هذا بالمعاصي والذنوب واستوجبت العقوبة فهو خير مني، فإنك لا ترى أحدا من أهل الإسلام إلا وهو أكبر منك أو أصغر منك.

أيها الأحبة إننا لا نريد من وراء هذا الكلام أن تصاب النفوس باليأس أو الإحباط، إنما نريد أن تعرف النفس قدرها وأن تتواضع النفوس لله تعالى فتزداد إقبالا عليه وخضوعا له بغير دلال ولا إعجاب؛ موقنين أن التوفيق بيد الله تعالى يهبه من يشاء ويمنعه من يشاء، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة