تدوين علم آداب البحث والمناظرة (1)

0 920

الجدل والمناظرة وجدا مع وجود الإنسان بلا شك، فطبيعة الانسان الجدل كما قال ربنا : [وكان الإنسان أكثر شيء جدلا]، ولكن الإنسان سبق بمخلوقات كانت أيضا تجادل وتناظر، فالقرآن يحدثنا عن إبليس اللعين أنه جادل ربه واستكبر ، فمحق ولعن بتلك المجادلة والعياذ بالله ، عندما جادل جدال المستكبرين الذين لا يريدون الحق : [قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين].

وهناك مجادلات محمودة جادل بها الملائكة ذكرها القرآن، وكان جدالهم جدال استرشاد، وطلب معرفة ،وكشف عن الحكمة: [وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون].
والناس بطبيعتهم يتجادلون ؛ وأكثرهم يجادل دون ضابط أو قانون عاصم من الزلل، أما أنبياء الله فكانوا يجادلون بأحسن حجة، وأوضح دليل ،وأبين برهان، مع كمال الأدب، ومعاملة كل مجادل بما يستحقه، ومجادلة من يستحق الجدال، والاعراض عمن لا يستحقه، فكانت مناظراتهم قانونا للبشرية في كفية المجادلة، وإيراد الأدلة، والنقض والإبرام.

وإن كنا لا ندري عن حقيقة الكتب السماوية المنزلة قبل القرآن لما أصابها من تحريف وتبديل، فإننا قد نجزم باشتمالها على المناظرات، وتقرير الحجج الصحيحة، وإبطال الشبهات الفاسدة، وذكر النقض والفرق، لأن القرآن مصدق لما قبله من الكتب، ولأن سنة الله واحدة مع جميع النبيين ، من وجود المعارضين المعاندين بالشبة الباطلة، التي يحتاج معها إلى الرد والمجادلة بالتي هي أحسن.

وقد قص علينا القرآن بعض مناظرات الرسل عليهم السلام مع أقوامهم.
إذن علم المناظرة والجدل مقرر في القرآن على ما يشفي ويكفي لمن تبصره، ولكن تجريد هذا العلم بمصنفات مستقلة خاصة جاء متأخرا عن عصر النبوة والصحابة.
وقد أطلق هذا الاسم "آداب البحث والمناظرة" على: الضوابط والقواعد والآداب التي ينبغي أن يتقيد بها المتجادلان حول موضوع معين.

وإذا نظرنا إلى تاريخ الجدال من بداية الخليقة نجد أن أول من كتب فيه هو "أرسطوطاليس" الفيلسوف الإغريقي الذي ألف كتاب (الجدل)، حتى وصل الناس إلى كتاب "ابن رشد" تلخيصا لكتاب الجدل، لكن القرآن الكريم سبق إلى الحديث عن الجدل ، بالحديث عن تاريخ الجدل في الأمم السابقة، وقد حكى القرآن لنا أن نوحا عليه الصلاة والسلام كان في جدال مع قومه زمنا طويلا ، يدافع عن الحق ،ويدعو إلى الله ، ويستخدم أدوات الجدال الناعم ،والمنطق السليم ، ليبين لقومه الحق، ويحذرهم من الباطل، وكان قومه أهل جدل وحوار وخصام، لكنه عليه السلام قد تفوق عليهم وأفحمهم في كثير من المناظرات ، حتى أنهم كانوا يهربون منه ، بل من الطريق الذي يسير فيه، بل كانوا إذا رأوه وضعوا أصابعهم في آذانهم ، واستغشوا ثيابهم، خوفا من إقناعهم بكلامه والتأثير عليهم ، لأنه صاحب حق ومنطق وجدال بالحسنى فكانوا يملون جداله ويتمنون لو يتركهم في غيهم : [قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين].

وهذه قمة اليأس التي بلغها قومه ، حين يطلبون أن تحل بهم العقوبات والطوفان والصواعق، التي كان يتوعدهم بها نوح عليه السلام، وكان ذلك في نظرهم القاصر خير من دخولهم في حوار وجدل ميئوس منه مع نوح عليه السلام.
أيضا كان الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام يجادل ويناظر، من أجل إيصال كلمة الحق ،ونشر الخير بين الناس، وكان صاحب حجة قوية، أشاد القرآن بقوة حجته وقدراته في المناظرة على إثبات وجود رب للكون ، بما يسوق من براهين دالة على أن للكون ربا وإلها يجب أن يعبد وحده :[وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ۚ نرفع درجات من نشاء ۗ إن ربك حكيم عليم] .

ومن هنا يتبين لنا أن الجدال والمناظرة، للوقوف على الحق ، أو الاقناع به ، أو للدعوة إلى الله تعالى، عمل محمود كالقتال، إذا كان في سبيل الدفاع عن الحق والدعوة.
وفي الجزء الثاني من هذا المقال نتناول بإذن الله حرص علماء المسلمين على علم "آداب المناظرة والجدل" وضبطهم لهذا العلم وتأليفهم فيه، حتى يكون رافدا للحق والخير ، وأن لا يكون من أجل المراء والاستعلاء على خلق الله.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة