أم نجعل المتقين كالفجار

0 1284

خلق الله تعالى النفس البشرية وسواها، وألهمها فجورها وتقواها، بمعنى أنه بين لها طريق الخير وطريق الشر، وسبيل الإيمان وسبيل الكفر تمام البيان، وأوضحه لها كمال الوضوح بما يقوم بمثله الحجة:{ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها}(الشمس:8).
كما بين لها خاتمة الطريقين وعاقبة السبيلين، فمن عمل على تزكية نفسه وسمى بها وترقى بها في مراقي الكمال فقد أفلح وأنجح، ومن غفل عنها وعودها المعصية وهبط بها إلى مستنقع الفجور، والكفر والفسوق، فقد خاب وخسر: {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها}(الشمس:9ـ10)

الفجور في القرآن:
ومصطلح الفجور في القرآن أكثر ما يأتي قرينا للكفر والفاجر بمعنى الكافر، وهو أكثر أحيانه، وربما يأتي بمعنى شدة الفسوق والعصيان، كذلك يأتي مقابل التقوى والإيمان. كما أن الفجار يأتون في مقابل الأبرار، ويأتي أهل الجنة مقابل أهل النار. قال تعالى: {إن الأبرار لفي نعيم . وإن الفجار لفي جحيم}[الانفطار:13-14]. قال الطبري في تفسير هذه الآية: "وإن الفجار: الذين كفروا بربهم لفي جحيم".

وفي سورة عبس مقارنة بين عاقبة الفريقين، فجعل البررة هم الفائزين أصحاب الوجوه النيرة المستبشرة، وجعل الفجرة هم الخاسرين أصحاب الوجوه المسودة المتغبرة المتقترة: {وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة . ووجوه يومئذ عليها غبرة . ترهقها قترة . أولئك هم الكفرة الفجرة}(عبس:38ـ42). قال الآلوسي في تفسير هذه الآية: "أولئك الموصوفون بما ذكر هم الكفرة الفجرة، أي: الجامعون بين الكفر والفجور؛ فلذلك جمع الله تعالى لهم بين الغبرة والقترة، وكأن الغبرة للفجور والقترة للكفور، نعوذ بالله عز وجل من ذلك".

وبينما يعلو كتاب أعمال الصالحين الى أعلى عليين: {كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين . وما أدراك ما عليون . كتاب مرقوم يشهده المقربون}(المطففين:18 :20)، يهبط كتاب أعمال الفاجرين الى أسفل سافلين: (كلا إن كتاب الفجار لفي سجين)(المطففين:7)، وبينما يتمتع الأبرار بالنعيم يعانى الفجار من عذاب الجحيم: {إن الأبرار لفي نعيم . وإن الفجار لفي جحيم}(الانفطار:13 ـ14)؛ لذا لا يتساوى في ميزان العدل المؤمن التقى بالفاجر الشقي: {أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار}(ص:28).. يقول الطبري رحمه الله: "(أم نجعل) الذين اتقوا الله بطاعته وراقبوه، فحذروا معاصيه، كالفجار يعني: كالكفار المنتهكين حرمات الله".

الفجور بمعنى الفسوق والعصيان
وأهل اللغة يقولون: إن الفجور مأخوذ من: فجر يفجر فجورا، أي: فسق. وهذه المادة تدل على التـفتح في الشيء، ومنه: انفجر الماء انفجارا: تفتح. ثم كثر هذا حتى صار الانبعاث والتفتح في المعاصي فجورا؛ ولذلك سمي الكذب فجورا. ثم كثر هذا حتى سمي كل مائل عن الحق فاجرا.
وكذا معناه في الاصطلاح.. قال الجرجاني: (الفجور: هو هيئة حاصلة للنفس بها يـباشر أمورا على خلاف الشرع والمروءة).
وقيل: الفجور بمعنى: الانبعاث في المعاصي والتوسع فيها.
وقيل: الفجور: الميل عن الحق إلى الباطل.
وقيل: الفجور: اسم جامع لكل شر، أي: الميل إلى الفساد، والانطلاق إلى المعاصي.

وهذا المعنى قد ورد من السنة وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤيده ويدل عليه.. فمن ذلك:
ـ قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود في الصحيحين: [... وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار...] الحديث.
قال المناوي: (وإياكم والكذب. اجتنبوه واحذروا الوقوع فيه. فإنه مع الفجور. أي: الخروج عن الطاعة. وهما في النار. يدخلان نار جهنم).

- وفي الصحيحين أيضا عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، في وصف أخلاق المنافقين قال عليه الصلاة والسلام: [...وإذا خاصم فجر][متفق عليه]. قال ابن رجب: (ويعني بالفجور: أن يخرج عن الحق عمدا حتى يصير الحق باطلا والباطل حقا. قال ابن حجر: (الفجور: الميل عن الحق والاحتيال في رده). وقال ابن بطال: (الفجور: الكذب والريبة، وذلك حرام، ألا ترى أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قد جعل ذلك خصلة من النفاق).

وعن أبي قتادة بن ربعي أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة، فقال: [مستريح ومستراح منه. قالوا: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه؟ قال: العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب][متفق عليه].
قال الباجي: قوله صلى الله عليه وسلم لما رأى الجنازة: [مستريح ومستراح منه] يريد أن من توفي من الناس على ضربين: ضرب يستريح، وضرب يستراح منه، فسألوه عن تفسير مراده بذلك، فأخبر أن المستريح: هو العبد المؤمن يصير إلى رحمة الله وما أعد له من الجنة والنعمة، ويستريح من نصب الدنيا وتعبها وأذاها، والمستراح منه هو العبد الفاجر، فإنه يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب، ويحتمل أن يكون أذاه للعباد بظلمهم، وأذاه للأرض والشجر: بغصبها من حقها وصرفها إلى غير وجهها، وإتعاب الدواب بما لا يجوز له من ذلك، فهذا مستراح منه) .قال ابن حجر: (والفاجر يحتمل أن يريد به الكافر، ويحتمل أن يدخل فيه العاصي).

أقوال السلف في الفجور
- قال الحسن بن علي رضي الله عنه: (أكيس الكيس التقى، وأحمق الحمق الفجور).
- وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا تصحب الفاجر يعلمك من فجوره، ولا تفش إليه سرك، واستشر في دينك الذين يخشون الله عز وجل).
- وعن ابن مسعود موقوفا: (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل، يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه، فقال به هكذا - أي بيده- فذبه عنه).
- وقال الشعبي: (اتقوا الفاجر من العلماء، والجاهل من المتعبدين، فإنهما آفة كل مفتون).
وبمثله قال سفيان: (تعوذوا بالله من فتنة العابد الجاهل، وفتنة العالم الفاجر، فإن فتنتهما فتنة كل مفتون).
- وقال -أيضا-: (لا تواخ الفاجر؛ فإنه يزين لك فعله، ويحب لو أنك مثله، ومدخله عليك ومخرجك من عنده شين وعار).
- وقال مالك بن دينار: (إن للمؤمن نية في الخير هي أمامه لا يبلغها عمله، وإن للفاجر نية في الشر هي أمامه لا يبلغها عمله) .
- وقال الحسن البصري: (إن المؤمن أحسن الظن بربه فأحسن العمل، وإن الفاجر أساء الظن بربه فأساء العمل، فكيف يكون يحسن الظن بربه من هو شارد عنه، حال مرتحل في سخطه؟!).

أسباب الوقوع في الفجور:
1- ضعف الإيمان في القلب، وضعف الوازع الديني، وعدم الخوف من الله سبحانه وتعالى ومراقبته.

2- انتشار الفسق في المجتمع، كأن يكون المجتمع مجتمعا غير منضبط بضوابط الشرع، متفلتا عن محاسن الأخلاق.

3- فساد التنشئة والتربية: وأعظم مثل على ذلك قوم نوح فقد كان كل جيل يوصي الذي بعده بالكفر ويحذر السابق اللاحق من اتباع الحق وقبول دعوة نوح عليه السلام: (وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا )(نوح ـ 27 ).

4- غياب فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما يتسبب في فشو الموبقات وانتشار السيئات واستمراء الناس لها لعدم وجود الرادع أو المنكر أو الوازع.

5- التساهل بالمعاصي الصغيرة واستمراؤها يصل بالمرء إلى مرتبة الفجور والعياذ بالله، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [وإن الكذب يهدي إلى الفجور].

آثار الفجور:
1- الفجور سبب لدخول النار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [وإن الفجور يهدي إلى النار].

2- الفجور دليل على خسة النفس، وعلامة من علامات الدناءة في الشخص، وعنوان للانحطاط الأخلاقي.

3- الفجور خلق يدعو لكراهية صاحبه، ويجعله ممقوتا من الخلق، مما يزرع الشحناء والبغضاء في المجتمع.

4- كما أن هذه الصفة ليس ضررها محصورا على الفاجر وحده، بل إن تداعيات فجوره قد تلحق الأذى على الأفراد وعلى المجتمع.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة