- اسم الكاتب:د. بدر عبد الحميد هميسه
- التصنيف:أحوال القلوب
الحمد لله الذي رضي عن المؤمنين الصادقين، وأجزل لهم المثوبة في الدنيا ويوم الدين، والذي أحب من اتبع هداه وكان به من المتمسكين، والصلاة والسلام على نبينا محمد المرسل رحمة للعالمين، وقدوة للسالكين، وهداية للخلق أجمعين، والذي اتخذه خليلا رب العالمين.
وبعد:
فإن العبادة الحقة هي التي يكون صاحبها بين الخوف والرجاء قال سبحانه : {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا (57)}(الإسراء). كما قال في وصف هؤلاء المشتاقين إلى الله : { أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب (9)}(الزمر).
فالمشتاقون إلى الله تعالى هم الذين تكون حياتهم بين الرغبة والرهبة كما قال تعالى في آل زكريا عليهم السلام : {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين(90)}(الأنبياء).
فالعبد الصالح تارة يمده الرجاء والرغبة ، فيكاد يطير شوقا إلى الله ، وطورا يقبضه الخوف والرهبة فيكاد أن يذوب من خشية الله تعالى ، فهو دائب في طلب مرضاة ربه مقبل عليه خائف من عقوباته ، ملتجئ منه إليه ، عائذ به منه ، راغب فيما لديه .
قال الشاعر:
خف الله وارجوه لكل عظيمة * * * ولا تطع النفس اللجوج فتندما
وكن بين هاتين من الخوف والرجا * * * وأبشر بعفو الله إن كنت مسلما
ولقد ضرب الأنبياء الكرام مثلا طيبا في حسن الشوق إلى الله تعالى ، فها هو نبي الله موسى عليه السلام حين قال لله : {رب أرني أنظر إليك}(الأعراف 143) ، يطلب النظر إلى الله شوقا إلى الله عز وجل لا شكا في وجوده ، ويدل عليه جوابه سؤال الله له وما تلك بيمينك؟ قال تعالى: { وما تلك بيمينك يا موسى (17) قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى(18)}(طه).
قال المفسرون : وقد كان يكفى موسى - عليه السلام - في الجواب أن يقول : هي عصاي ، ولكنه أضاف إلى ذلك أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي؛ لأن المقام يستدعى البسط والإطالة في الكلام ، إذ هو مقام حديث العبد مع خالقه ، والحبيب مع حبيبه .(راجع: التفسير الوسيط 1/2818).
والمشتاقون إلى الله هم السابقون بالخيرات إليه تصديقا لقوله سبحانه :{فالسابقات سبقا(4)}(النازعات).
قال مقاتل هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة. وقال الربيع: هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة شوقا إلى الله.
وقال قتادة والحسن: هي النجوم تسبح في أفلاكها كما في قوله : {وكل في فلك يسبحون} وقال عطاء: هي السفن تسبح في الماء وقيل: هي أرواح المؤمنين تسبح شوقا إلى الله .(فتح القدير 5/373).
قال الغزالي في بيان معنى الشوق إلى الله تعالى: اعلم أن من أنكر حقيقة المحبة لله تعالى فلا بد وأن ينكر حقيقة الشوق؛ إذ لا يتصور الشوق إلا إلى محبوب ، ونحن نثبت وجود الشوق إلى الله تعالى وكون العارف مضطرا إليه بطريق الاعتبار والنظر بأنوار البصائر وبطريق الأخبار والآثار .(إحياء علوم الدين 4/322).
وكان علي بن سهل بن الأزهر أبو الحسن الاصبهاني، أولا مترفا ثم صار زاهدا عابدا يبقى الأيام لا يأكل فيها شيئا، وكان يقول: ألهاني الشوق إلى الله عن الطعام والشراب.(البداية والنهاية 11/150).
ومن جميل ما قاله ابن القيم في إغاثة اللهفان (1 / 224 ) : ( فلو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكنا ، ولا أزعج له ظاهرا ولا باطنا ، ولا أثار فيهم وجدا ، ولا قدح فيهم من لواعج الشوق إلى الله زندا ، حتى إذا تلي عليهم قرآن الشيطان ، وولج مزموره أسماعهم ، فجرت ينابيع الوجد من قلوبهم على أعينهم فجرت ، وعلى أقدامهم فرقصت ، وعلى أيديهم فصفقت ، وعلى بقية أعضائهم فاهتزت وطربت ، وعلى أنفاسهم فتصاعدت ، وعلى زفراتهم فتزايدت).
كان عبد الواحد بن زيد يقول: يا إخوتاه ألا تبكون شوقا إلى الله؟ ألا إنه من بكى شوقا إلى سيده لم يحرم النظر إليه. يا إخوتاه ألا تبكون خوفا من النار؟ ألا إنه من بكى خوفا من النار أعاذه الله منها. يا إخوتاه ألا تبكون خوفا من العطش يوم القيامة؟ ألا إنه من بكى خوفا من ذلك سقي على رؤوس الخلائق يوم القيامة. يا إخوتاه ألا تبكون؟ بلى فابكوا على الماء البارد أيام الدنيا لعله أن يسقيكموه في حظائر القدس مع خير الندماء والأصحاب من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. ثم جعل يبكي حتى غشي عليه.(الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا 5).
يقول ابن الجوزي: بعض العابدات كانت تقول: (والله لقد سئمت الحياة حتى لو وجدت الموت يباع لاشتريته شوقا إلى الله وحبا للقائه، فقيل لها: على ثقة أنت من عملك؟ قالت: لا والله؛ لحبي إياه وحسن ظني به، أفتراه يعذبني وأنا أحبه:
قال وكيع: سمعت سفيان يقول: لو أن اليقين استقر في القلوب لطارت شوقا أو حزنا ، إما شوقا إلى الله عز وجل ، وإما فرقا من النار. (مقدمة الجرح والتعديل ،لابن أبي حاتم 51).
عن ابن جابر : إن عبدالله بن أبي زكريا كان يقول: لو خيرت بين أن أعمر مئة سنة من ذي قبل في طاعة الله أو أن أقبض في يومي هذا ، أو في ساعتي هذه ، لاخترت أن أقبض في يومي هذا ، أو في ساعتي هذه شوقا إلى الله ، وإلى رسوله ، وإلى الصاحين من عباده.(تهذيب الكمال للمزي: 14/523).
قال الشاعر :
قومي هم صنعوا التاريخ إذ ملكوا * * * أعفة عظماء النفس والهمم
مشوا إلى جنبات الأرض في يدهم * * * فرقان ربي يهدي الخلق للسلم
دعوا إلى الله فانقاد الأنام لهم * * * شوقا إلى الله والتوحيد والقيم
المشتاقون إلى الله تعالى ... هم الذين يجعلون حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فوق كل شيء ، فوق حبهم لأنفسهم وأزواجهم وأولادهم وأموالهم وآباءهم وأمهاتهم والناس أجمعين .. قال تعالى : {والذين آمنوا أشد حبا لله (165)} (البقرة).
قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم(54) إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون(55) ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون(56)}(المائدة).
عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه ، كما يكره أن يوقد له نار فيقذف فيها".(أخرجه أحمد والبخاري ومسلم) .
وعن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وأهله ، والناس أجمعين".(أخرجه البخاري ومسلم والنسائي).
عن أبي عقيل ، زهرة بن معبد ، أنه سمع جده عبد الله بن هشام ، قال:كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب ، رضى الله عنه ، فقال : والله ، لأنت ، يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا نفسي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يؤمن أحدكم حتى أكون عنده أحب إليه من نفسه" ، فقال عمر : فلأنت الآن ، والله ، أحب إلي من نفسي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الآن يا عمر".(أخرجه أحمد والبخاري).
قال الشاعر:
أتحب أعداء الحبيب وتدعى * * * حبا له ، ما ذاك في الإمكان
وكذا تعادى جاهدا أحبابه * * * أين المحبة يا أخا الشيطان ؟!
إن المحبة أن توافق من تحب * * * على محبته بلا نقصان
فلئن ادعيت له المحبة مع خلاف * * * ما يحب فأنت ذو بهتان
المشتاقون إلى الله تعالى ... هم الذين يعتزون بدينهم ويقدمون حبه والانتماء إليه على كل حب وانتماء .
عن ابن عباس قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: "الحنيفية السمحة". (أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد).
عن ثابت ، عن أنس رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه غنما بين جبلين ، فأتى قومه ، فقال : أي قوم أسلموا ، فوالله إن محمدا ليعطي عطاء ما يخاف الفقر ، فقال أنس : إن كان الرجل ليسلم ، ما يريد إلا الدنيا ، فما يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها.(أخرجه أحمد ومسلم).
المشتاقون إلى الله تعالى ... هم الذين يحبون قراءة القرآن ويتخلقون بأخلاقه .
عن زرارة بن أوفى عن ابن عباس قال: قال رجل فقال: يا رسول الله أى العمل أحب إلى الله؟ قال: "الحال المرتحل". قال وما الحال المرتحل؟ قال: "الذى يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل".(الترمذي).
وعن أنس بن مالك ، قال:جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إني أحب هذه السورة {قل هو الله أحد} ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حبك إياها أدخلك الجنة".
- وفي رواية : قيل : يا رسول الله ، إن ها هنا رجلا لا يصلي صلاة ، إلا قرأ فيها : {قل هو الله أحد} منها ما يفردها ، ومنها ما يقرأها مع سورة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "وما تريد إلى هذا؟" قال : يا رسول الله ، إني أحبها ، قال : "حبها إذا أدخلك الجنة".(أخرجه أحمد والدارمي والترمذي).
عن ابن مسعود ، قال:قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من سورة النساء ، فلما بلغت هذه الآية : {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} قال : ففاضت عيناه. (أخرجه أحمد).
عن سعد بن هشام بن عامر . قال : أتيت عائشة . فقلت : يا أم المؤمنين اخبريني بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت : كان خلقه القران أما تقرا القران قول الله عز وجل : {وإنك لعلى خلق عظيم } . قلت : فإني اريد أن اتبتل . قالت : لا تفعل اما تقرا : {لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة} فقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ولد له.(أخرجه أحمد والنسائي ).
وللحديث بقية، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صيد الفوائد(بتصرف يسير)