- اسم الكاتب:د. بدر عبد الحميد هميسه
- التصنيف:أحوال القلوب
الحمد لله والصلاة على نبيه ومصطفاه محمد بن عبد الله سيد المشتاقين إلى الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فقد ذكرنا في المقال السابق بعض صفات المشتاقين إلى الله تعالى ، وفي هذا المقال نكمل ما تيسر منها ، فنقول:
المشتاقون إلى الله تعالى ... هم الذين يجعلون ألسنتهم رطبة بذكر الله تعالى .
عن مالك بن يخامر ، قال : سمعت معاذ بن جبل ، رضي الله عنه ، يقول:إن آخر كلمة فارقت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت : يا رسول الله ، أي الأعمال أحب إلى الله؟ أو أفضل ؟ قال : "أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله".(أخرجه البخاري).
وعن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: "إن لله عز وجل ملائكة سيارة فضلا يبتغون مجالس الذكر ، فإذا وجدوا مجلسا فيه ذكر قعدوا معهم ، فحضن بعضهم بعضا بأجنحتهم حتى يملأوا ما بينهم وبين سماء الدنيا ، فإذا تفرقوا عرجوا ، أو صعدوا إلى السماء ، قال : فيسألهم الله ، عز وجل ، وهو أعلم ، من أين جئتم ؟ فيقولون : جئناك من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويهللونك ويسألونك ، قال : وماذا يسألوني ؟ قالوا : يسألونك جنتك ، قال : وهل رأوا جنتي ؟ قالوا : لا ، أي رب ، قال : فكيف لو قد رأوا جنتي ؟ قالوا : ويستجيرونك ، قال : ومم يستجيروني ؟ قالوا : من نارك يا رب ، قال : وهل رأوا ناري ؟ قالوا : لا ، قال : ويستغفرونك ؟ قال : فيقول : قد غفرت لهم وأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا ، قال : فيقولون : رب فيهم فلان عبد خطاء ، إنما مر فجلس معهم ، قال : فيقول : قد غفرت لهم ، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم".(أخرجه أحمد والبخاري ومسلم).
إليك عنا فما تحظى بنجوانا يا غادرا قد لها عنا وقد خانا
أعرضت عنا ولم تعمل بطاعتنا وجئت تبغي الرضا والوصل قد بانا
بأي وجه نراك اليوم تقصدنا وطال ما كنت في الأيام تنسانا
يا ناقض العهد ما في وصلنا طمع إلا لمجتهد بالجد قد دانا
المشتاقون إلى الله تعالى ... هم الذين يفرون إلى الله تعالى ويعجلون إليه ليرضى عنهم .
قال محمد بن عامر : قلت لشقيق البلخي : متى أوفق للعمل الصالح ؟ قال : إذا جعلت أحداث يومك وليلتك متقدمة عند الله . قلت : فمتى أتوكل ؟ قال : إن اليقين إذا تم بينك وبين الله عز وجل سمي تمامه توكلا . قلت : فمتى يصح ذكري لربي ؟ قال : إذا سمجت الدنيا في عينك ، وقذفت أملك فيما بين يديك . قلت : فمتى يصح صومي ؟ قال : إذا جوعت قلبك وأظمأت لسانك من الفحشاء . قلت : فمتى أعرف ربي ؟ قال : إذا كان الله لك جليسا ولم تر سواه لنفسك أنيسا . قلت : فمتى أحب ربي ؟ قال : إذا كان ما أسخطه أمر عندك من الصبر ، وكان ما ينزل بك هو الغنم والظفر ، وجددت لذلك حمدا وشكرا . قلت : فمتى أشتاق إلى ربي ؟ قال : إذا جعلت الآخرة لك قرارا ، ولم تسم لك الدنيا مسكنا . قلت : فمتى أعرف لقاء ربي ؟ قال : إذا كنت تقدم على حبيب وتصدر عن أمل قريب . قلت : متى أستلذ الموت ؟ قال : إذا جعلت الدنيا خلف ظهرك ، وجعلت الآخرة نصب عينك ، وعلمت أن الله تبارك وتعالى يراك على كل حال ، وقد أحصى عليك الدقيق والجليل . قلت : فمتى أكتفي بأهون الأغذية ؟ قال : إذا عرفت وبال الشهوات غدا وسرعة انقطاع عذوبة اللذات . قلت : متى أوثر الله ولا أوثر عليه سواه ؟ قال : إذا أبغضت فيه الحبيب ، وجانبت فيه القريب .(ابن عبر البر : المجالسة وجواهر العلم 62/393).
ولله در ابن القيم حيث قال:
يا قوم فرض الهجرتين بحاله والله لم ينسخ إلى ذا الآن
فالهجرة الأولى إلى الرحمن بالإخلاص في سر وفي إعلان
حتى يكون القصد وجه الله بالأقوال والأعمال والإيمان
ويكون كل الدين للرحمن ما لسواه شيء فيه من إنسان
والله هذا شطر دين الله والتحكيم للمختار شطر ثان
والهجرة الأخرى إلى المبعوث بالإسلام والإيمان والإحسان
أترون هذي هجرة الأبدان لا والله بل هي هجرة الإيمان
المشتاقون إلى الله تعالى ... هم الذين يرضون عن الله على كل حال فيرضى عنه في الأقوال والفعال .
عن أنس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: "عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط".(أخرجه ابن ماجة والترمذي).
عن قتادة بن النعمان ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله عبدا حماه الدنيا ، كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء". (أخرجه الترمذي) .
عن عبد الله بن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قسم بينكم أخلاقكم ، كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن الله ، عز وجل ، يعطي الدنيا من يحب ، ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب ، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه ، والذي نفسي بيده ، لا يسلم عبد ، حتى يسلم قلبه ولسانه ، ولا يؤمن ، حتى يأمن جاره بوائقه" ، قالوا : وما بوائقه ، يا نبي الله ؟ قال : "غشمه ، وظلمه ، ولا يكسب عبد مالا من حرام ، فينفق منه ، فيبارك له فيه ، ولا يتصدق به فيقبل منه ، ولا يترك خلف ظهره ، إلا كان زاده إلى النار ، إن الله ، عز وجل ، لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكن يمحو السيئ بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث".(أحمد).
قال عمر بن عبد العزيز لابنه : كيف تجدك ؟ قال : في الموت ؟ قال له : لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك . فقال له : والله يا أبت ! لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب . (ابن عبر البر : المجالسة وجواهر العلم 2/250).
عن ابن جدعان ، عمن سمع أبا ذر في مسجد المدينة يقول لرجل : بم تخوفني ؛ فوالله للفقر أحب إلي من الغنى ، ولبطن الأرض أحب إلي من ظهرها.(ابن عبر البر : المجالسة وجواهر العلم 7/31).
المشتاقون إلى الله تعالى ... هم الذين يحبون لله ويبغضون لله ويعطون لله ويمنعون لله .
عن القاسم عن أبى أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان".(أخرجه أبو داود).
عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: "إذا أحب أحدكم أخاه ، فليعلمه أنه يحبه". (أخرجه أحمد والبخاري في الأدب المفرد والترمذي) .
قال الشاعر:
نوح الحمام على الغصون شجاني ورأى العذول صبابتي فبكاني
إن الحمام ينوح من خوف النوى وأنا أنوح مخافة الرحمن
المشتاقون إلى الله تعالى ... هم الذين يسارعون في الخيرات ويحسنون العبادة لرب البريات ويستغلون مواسم الطاعات .
عن أبي بن كعب ، قال:صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صلاة الصبح ، فقال : "أشهد فلان الصلاة؟" قالوا : لا ، قال : "ففلان؟" قالوا : لا ، قال : "إن هاتين الصلاتين من أثقل الصلاة على المنافقين ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ، والصف الأول على مثل صف الملائكة ، ولو تعلمون فضيلته لابتدرتموه ، وصلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده ، وصلاة الرجل مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل ، وما كانوا أكثر فهو أحب إلى الله ، عز وجل".(أخرجه أحمد وغيره).
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام" يعنى أيام العشر. قالوا يا رسول الله ولا الجهاد فى سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء".
المشتاقون إلى الله تعالى ... هم الذين يحبون لإخوانهم ما يحبونه لأنفسهم ويكرهون لهم ما يكرهونه لأنفسهم .
عن حميد الطويل ، أنه سمع أنس بن مالك يقول: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار ، فآخى بين سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف . فقال له سعد : إن لي مالا ، فهو بيني وبينك شطران، ولي امرأتان ، فانظر أيهما أحب إليك ، فأنا أطلقها ، فإذا حلت فتزوجها . قال : بارك الله لك في أهلك ومالك ، دلوني - أي - على السوق . فلم يرجع حتى رجع بسمن وأقط قد أفضله .
عن أبي ذر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا ذر ، إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ، ولا تولين مال يتيم".(أخرجه أحمد ومسلم وابن حبان).
المشتاقون إلى الله تعالى ... هم الذين يحبون مصاحبة الصالحين ومجالسة المؤمنين ومرافقة المتقين .
عن ثابت ، عن أنس بن مالك ؛أن رجلا قال : يا رسول الله ، متى الساعة ؟ قال : "وماذا أعددت للساعة؟" قال : لا ، إلا أني أحب الله ورسوله ، قال : "فإنك مع من أحببت".
قال أنس : فما فرحنا بشيء ، بعد الإسلام ، فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : إنك مع من أحببت. قال : فأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبا بكر ، وعمر ، وأنا أرجو أن أكون معهم ، لحبي إياهم ، وإن كنت لا أعمل بعملهم.(رواه أحمد ومسلم).
المشتاقون إلى الله تعالى ... هم الذين يحبون لقاء الله تعالى ، ولا يخافون الموت .
عن أنس عن عبادة بن الصامت عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه"قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت. قال: "ليس ذاك ، ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته ، فليس شىء أحب إليه مما أمامه ، فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه ، وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته ، فليس شىء أكره إليه مما أمامه ، كره لقاء الله وكره الله لقاءه".(أخرجه أحمد والبخاري ومسلم) .
قال أبو محمد الأندلسي القحطاني:
إليك وإلا لا تشد الركائب ومنك وإلا فالمؤمل خائب
وفيك وإلا فالغرام مضيع وعنك وإلا فالمحدث كاذب
المشتاقون إلى الله تعالى ... هم الذين يشتاقون للقاء الله تعالى ورؤيته في الجنة .
عن صهيب قال:تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} قال : "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد : يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدا يحب أن ينجزكموه. فيقولون وما هو ألم يثقل الله موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويخرجنا من النار. قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئا أحب إليهم من النظر إليه".(أخرجه أحمد ومسلم).
عن شداد بن الهاد؛ أن رجلا من الأعراب جاء إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فامن به وآتبعه ، ثم قال : أهاجر معك ، فأوصى به النبي ، صلى الله عليه وسلم ، بعض أصحابه ، فلما كانت غزوة غنم النبي ، صلى الله عليه وسلم ، سبيا ، فقسم وقسم له ، فاعطى أصحابه ما قسم له ، وكان يرعى ظهرهم ، فلما جاء دفعوه إليه ، فقال : ما هذا؟ قالوا : قسم قسمه لك النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فأخذه فجاء به إلى النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذا؟ قال : "قسمته لك". قال : ما على هذا اتبعتك ، ولكني اتبعتك على أن أرمى إلى هاهنا ، وأشار إلى حلقه ، بسهم فاموت فادخل الجنة. فقال : "إن تصدق الله يصدقك" ، فلبثوا قليلآ ، ثم نهضوا في قتال العدؤ ، فاتي به النبي ، صلى الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار ، فقال النبي ، صلى الله عليه وسلم : "أهو هو؟" قالوا : نعم. قال : "صدق الله فصدقه" ، ثم كفنه النبي ، صلى الله عليه وسلم ، في جبة النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ثم قدمه فصلى عليه ، فكان فيما ظهر من صلاته: "اللهم هذا عبدك ، خرج مهاجرا في سبيلك ، فقتل شهيدا ، أنا شهيد على ذلك". (رواه النسائي وصححه الألباني).
ورحم الله ابن القيم إذ يقول في وصفه للجنة:
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن ليس ينـالها في الألف إلا واحد لا اثنان
يا سلعة الرحمن ماذا كفؤها إلا أولو التقوى مع الإيمان
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد بين الأراذل سفلة الحيوان
يا سلعة الرحمن أين المشتري فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن هل من خاطب فالمهر قبل الموت ذو إمكان
يا سلعة الرحمن كيف تصبر الـ خطاب عنك وهم ذوو إيمان
يا سلعة الــرحمن لولا أنها حجبت بكل مكاره الإنسان
ما كان عنها قط من متخلف وتعطـلت دار الجزاء الثاني
لكنها حجبت بكـل كريهة ليصد عنـها المبطل المتواني
وتنالها الهمــم التي تسمو إلى رب العـلى بمشيئة الرحمن
اللهم إنا نسألك بنور وجهك الكريم الذي أشرقت له السموات والأرض وباسمك العظيم أن تقبلنا وترضى عنا رضى لا سخط بعده أبدا.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد ، والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بتصرف يسير