- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:نظائر قرآنية
في سورة الأنعام نقرأ الآيات الثلاث المتتاليات:
الآية الأولى: قوله تعالى: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون} (الأنعام:97).
الآية الثانية: قوله سبحانه: {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون} (الأنعام:98).
الآية الثالثة: قوله عز وجل: {وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} (الأنعام:99).
حول خواتم هذه الآيات يرد السؤال التالي: ما الذي أوجب اختلاف الأوصاف التي ختمت بها الآيات الثلاث؛ حيث قال في الأولى: {يعلمون} وفي الثانية: {يفقهون} وفي الثالثة: {يؤمنون}؟ وهل يصلح بعض ذلك مكان بعض، أم في كل معنى يخص اللفظ الذي جاء عليه؟
أجاب ابن الزبير الغرناطي على هذا السؤال بما حاصله: إن الوارد في قوله تعالى: {إن الله فالق الحب والنوى} (الأنعام:95) إلى قوله تعالى: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر} آيات تنبه على معرفة الله تعالى والعلم به وبوحدانيته، وهو أشرف معلوم، فأعقب بأشرف ما يوصف به المعتبرون، فقيل: {لقوم يعلمون} وذلك أعلى من الوصف بقوله تعالى: {لقوم يفقهون} وبقوله سبحانه: {لقوم يؤمنون} ولذلك ورد وصفه تعالى بالعلم، وهو سبحانه لا يوصف بالفقه، ولا بالعقل، فلما كان المعلوم أشرف المعلومات عبر عن الآيات التي نصبت للدلالة عليه باللفظ الأشرف.
قال ابن عاشور: "وجعل التفصيل {لقوم يعلمون} تعريضا بمن لم ينتفعوا من هذا (التفصيل) بأنهم قوم لا يعلمون".
أما الآية الأخرى فتقدم قبلها قوله تعالى: {وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع} ومرجع العلم بنشأة الإنسان وتقلبه من صلب إلى رحم، وارتباط أعضائه الظاهرة والباطنة، وجمع أجزائه، وتصرف كل عضو في ما له خلق، واحتياج الأعضاء بعضها إلى بعضها، وإتقان كل عضو منها لما يسر له، إلى غير ذلك، فالعلم بهذا كله جملة وتفصيلا مما لا يحصل بالسمع والبصر، وإنما يحصل بالاعتبار والتفكر من ذوي الفطن السليمة، والنظر العقلي السديد والفهم المصيب، فناسب هذا قوله تعالى: {لقوم يفقهون} و(الفقه) التفهم والتفطن، وذلك من جملة ما ألهم إليه وأشار قوله تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} (الذاريات:21).
ورأى ابن عاشور أنه سبحانه عدل في الآية الثانية عن {يعلمون} إلى {يفقهون} لأن دلالة إنشائهم على هذه الأطوار من الاستقرار والاستيداع وما فيهما من الحكمة دلالة دقيقة، تحتاج إلى تدبر؛ فإن المخاطبين كانوا معرضين عنها، فعبر عن علمها بأنه فقه، بخلاف دلالة النجوم على حكمة الاهتداء بها، فهي دلالة متكررة، وتعريضا بأن المشركين لا يعلمون، ولا يفقهون؛ فإن العلم هو المعرفة الموافقة للحقيقة، والفقه هو إدراك الأشياء الدقيقة، فحصل تفصيل الآيات للمؤمنين، وانتفى الانتفاع به للمشركين؛ ولذلك قال بعد هذا: {إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون}.
وأما الآية الثالثة فإنه سبحانه لما ذكر إنزال الماء من السماء، وإخراج النبات من الأرض به في قوله سبحانه: {وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان} فلما أورد هذا، كان مذكرا بالبعث الأخروي، والنشأة الثانية، كما قال تعالى في آية الأعراف: {كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون} (الأعراف:57) وإنما يحصل العلم بذلك وسائر أمور الآخرة من قبل الرسل عليهم الصلاة والسلام والإيمان بهم وبما جاؤوا به، فقال تعالى: {إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} أي: يصدقون بالبعث، وأنه تعالى كما بدأهم يعودون.
وأجاب أبو هلال العسكري جوابا مختصرا عن السؤال، فقال: إن من أحاط علما بما في الآية الأولى صار عالما، لأنه أشرف العلوم، فختم سبحانه الآية بقوله: {يعلمون} والآية الثانية مشتملة على ما يستدعي تأملا وتدبرا، والفقه علم يحصل بالتدبر والتأمل والتفكر؛ ولهذا لا يوصف به الله سبحانه، فختم تعالى الآية بقوله تعالى: {يفقهون} ومن أقر بما في الآية الثالثة صار مؤمنا حقا، فختم الآية بقوله عز وجل: {يؤمنون}.
وغير بعيد عما سبق أجاب بدر الدين ابن جماعة عن السؤال بقوله: إن حساب الشمس والقمر والنجوم والاهتداء بها يختص بالعلماء؛ فناسب ختمه بقوله سبحانه: {يعلمون} وإنشاء الخلائق من نفس واحدة، ونقلهم من صلب إلى رحم، ثم إلى الدنيا، ثم إلى مستقر ومستودع، ثم إلى حياة وموت، والنظر في ذلك والفكر فيه أدق، فناسب ختمه بقوله تعالى: {يفقهون} أي: يفهمون، وهو اشتغال الذهن بما يتوصل به إلى غيره، فيتوصل بالنظر في ذلك إلى صحة وقوع البعث والنشور بثواب أو عقاب. ولما ذكر عز شأنه ما أنعم به على عباده من سعة الأرزاق والأقوات والثمار وأنواع ذلك، ناسب ذلك ختمه بالإيمان الداعي إلى شكره تعالى على نعمه.
قال ابن عاشور: "وقد صرح في هذا بأن الآيات إنما تنفع المؤمنين، تصريحا بأنهم المقصود في الآيتين الأخريين، بقوله سبحانه: {لقوم يعلمون} (الأنعام:97) وقوله تعالى: {لقوم يفقهون} (الأنعام:98) وإتماما للتعريض بأن غير العالمين، وغير الفاقهين هم غير المؤمنين، يعني المشركين". وبما تقدم يتبين وجه المناسبة فيما ختمت به كل آية من الآيات الثلاث، وأنه لم يكن ليناسب أن تختم كل آية منها بغير الوصف الذي ختمت به، والله الموفق للصواب، وهو الهادي إلى سبيل الرشاد.