قراءة في كتاب (الاختيار عند القراء)

0 377

المراد بـ (القراء) في مقالنا، أئمة القراءات القرآنية، وموضوع (الاختيار) عند القراء من الموضوعات المركزية في علم القراءات، وله اتصال بعلمي: التفسير والنحو، فضلا عن عدد من القضايا المنهجية المهمة في علوم القرآن، وبين يدينا كتاب بعنوان (الاختيار عند القراء: مفهومه، ومراحله، وأثره في القراءات) لمؤلفه د.أمين بن إدريس فلاته، يعد من أجود الدراسات المعاصرة الجادة في هذا الموضوع.

ولا يخفى على المشتغلين بعلم القراءات حضور مصطلح (الاختيار) في كتب القراءات؛ من ذكر اختيارات القراء والرواة والأئمة في بعض الأحرف القرآنية، بل لا يكاد يكتمل التصور عن القراءات القرآنية في بنائها المحكم الذي استقرت عليه إلا بالتعرض لقضية الاختيار؛ حيث كان الاختيار هو صنيع القراء الأوائل، وصنيع بعض الرواة عنهم، وامتد ذلك في الطرق لكل رواية من الروايات القرآنية المعروفة.

ولا يقتصر حضور هذه القضية على كتب القراء فحسب؛ بل كانت بارزة لدى بعض المفسرين خاصة المتقدمين منهم، وتجلت في تعاملهم مع بعض القراءات القرآنية، وترجيح بعضها على بعض، وتعليل ذلك بعلل مختلفة، كما حضرت عند النحويين في اختياراتهم المبنية على قواعد العربية والأصول النحوية، والتي احتلت مساحة كبيرة من الأخذ والرد في العديد من كتب التفسير.

وهذا الحضور لقضية الاختيار -اصطلاحا وتطبيقا- في كتب القراءات والتفسير وغيرها يطرح عددا من التساؤلات التي تفتقر إلى جواب: ما المراد بالاختيار؟ وما الفرق بينه وبين القراءة؟ وما الدواعي التي تدعو القارئ أو المفسر أن يختار بين القراءات؟ وإلى مدى يصح هذا الفعل؟ وإن صح فما هي ضوابطه؟

وعلى الرغم من أهمية هذه القضية وكثرة الأسئلة المتعلقة بها، إلا أن الناظر يلحظ ندرة المؤلفات التي اعتنت بمقاربتها والتأصيل لها والبحث في مسائلها، حيث لم تظفر المكتبة الإسلامية عموما -ومكتبة القراءات خصوصا- بمؤلفات تعالج هذه المسألة، وتحرر اصطلاحاتها، وتسلط الضوء على نشأتها، وتبرز مراحلها وأطوارها عبر التاريخ، والآثار التي نجمت عنها، إلى غير ذلك من المسائل التي ترتبط بهذه الظاهرة.

ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب الذي نعرف به، وأهمية تناوله بالقراءة والتحليل، ولا سيما أنه قد تصدى لتناول قضية الاختيار تناولا متكاملا من جوانب عدة، وعالج العديد من التساؤلات التي تتعلق بهذه القضية، حيث عرض لمصطلح الاختيار ذاته، وتتبع نشأة الاختيار، ومراحله عبر التاريخ، وضوابطه، وأثره في علم القراءات، وغير ذلك من المسائل المتعلقة بهذه القضية.

محتويات الكتاب

في الباب الأول تناول المؤلف تعريف الاختيار وبعض المسائل الاصطلاحية المتعلقة به، كالعلاقة بين الاختيار والتخيير، والعلاقة بين الاختيار والقراءة والحرف، كما تعرض في هذا الباب لنشأة الاختيار وتطوره، فذكر الأسباب التي أدت للاختيار، وقسم المراحل التاريخية التي مر بها الاختيار إلى ثمان مراحل، وذكر عددا من المصنفات في الاختيار بلغت ثمانين مصنفا.

أما الباب الثاني فخصه بدراسة حكم الاختيار وضوابطه، فبين جواز الاختيار، وذكر الأدلة على ذلك من الأحاديث النبوية وغيرها، ونقل جلة من أقوال العلماء في الاختيار، ثم تعرض للضوابط، وقسمها إلى ضوابط عامة وأخرى خاصة، وعرض طرفا من لوازم الاختيار ومقتضياته.

انتقل في الباب الثالث للكلام عن أشهر أصحاب الاختيار ومناهجهم، وقسم أصحاب الاختيار إلى ثلاثة أقسام: الأئمة العشرة أصحاب الاختيارات المشهورة المتلقاة بالقبول، ثم أصحاب الاختيارات من غيرهم إلى آخر القرن الرابع الهجري، ثم أصحاب الاختيار في القرن الخامس الهجري وما بعده، وفي كل ذلك يترجم بترجمة لصاحب الاختيار، تركز على ما يتعلق بالاختيار والقراءات.

ثم تناول في آخر أبواب الكتاب أثر الاختيار في القراءات، فذكر آثارا إيجابية، وهي:

إثراء علم القراءات، وعلم الاحتجاج لها، وتمييز الضوابط الصحيحة لقبول القراءة، ثم ذكر آثارا سلبية، وهي: الجسارة على رد القراءات أو الطعن فيها، وإيهام المفاضلة بين القراءات المتواترة أو الصحيحة، وتسور من ليس أهلا للاختيار للدخول فيه. ثم ختم كتابه بمسرد لتوصيات البحث، وخاتمة له، ثم الفهارس المشتملة على فهرس المصادر والمراجع، وفهرس الموضوعات.

هدف الكتاب

لم ينص المؤلف على الهدف من كتابه، لكن القارئ للكتاب والمتأمل في مضمونه، يظهر له أن المؤلف هدف لتناول قضية الاختيار، وبحثها بشكل شامل؛ مصطلحا، وتاريخا، وأثرا في علم القراءات. وقد قال المؤلف في مقدمته بعد أن طرح عددا من القضايا التي تعرض لها في كتابه: "تلك قضايا جديرة بالبحث والاهتمام، لم تطرق بشكل فيه إلمام، ولم أر فيها كتابا مفردا يفصلها، ويحل الإشكالات المتعلقة بها، لذلك كله اخترت هذا الموضوع".

الإشكالية الرئيسة للكتاب

تتمحور إشكالية الكتاب حول مقاربة موضوع الاختيار مصطلحا، وتاريخا، وأثرا في علم القراءات، كما هو بين من عنوانه.

تحرير مصطلح الاختيار

عند تحريره لمصطلح (الاختيار) وضح المؤلف أمرا مهما، وهو أن الاختيار عند القراء لا يلزم منه اعتقاد الصواب في القراءة المختارة والخطأ في غيرها، فهو نوع خاص من الترجيح، لا يلزم منه تخطئة غير القول المختار، إضافة إلى كونه في القراءات اختيارا من المروي لا اجتهادا مستقلا.

وقد خلص المؤلف من خلال هذا المسلك إلى أن الاختيار عند القراء يطلق على معنيين:

الأول: من حيث عملية الاختيار وكيفيته، هو: انتقاء القارئ، الضابط، العارف باللغة، طريقة خاصة في القراءة، منسوبة إليه، مستلة من بين ما روى عن شيوخه، لعلة ما.

الثاني: باعتباره نفس الوجه المختار، هو: ما أضيف إلى القارئ من وجوه القراءة إضافة انتقاء واصطفاء، لا إضافة رواية.

وقد خلص المؤلف إلى أنه لا فرق بين التعبير بـ (القراءة) الاصطلاحية، والتعبير بـ (الاختيار) وأضاف إلى ذلك أيضا استخدام مصطلح (الحرف) في بعض أحواله، كما يقال: حرف أبي، أو حرف علي، واعتبر أن الألفاظ الثلاثة مترادفة.

أما الأسباب التي رآها المؤلف مؤدية إلى وقوع الاختيار فقد اختصرها في:

1- ثبوت أحاديث التخيير في قراءة القرآن بأي حرف من الأحرف السبعة المنزلة، وعمل الصحابة بها.

2- تشعب طرق القراءات وازديادها بسبب كثرة القراء من الصحابة، ثم كثرة من أخذ عنهم، ومن جاء بعدهم.

3- جمع القرآن في عهد عثمان، وإرسال المصاحف إلى الأمصار.

4- التسهيل على آخذي القرآن، وعلى العامة.

5- تبحر بعض القراء في اللغة والنحو، ما جعلهم يختارون من القراءات الثابتة ما هو أقوى وجها عندهم.

ولا يخفى اتصال بحث أركان القراءة الصحيحة بموضوع الاختيار عند القراء؛ فإن هذه الأركان تأتي على رأس ضوابط الاختيار، وقد اجتهد المؤلف في تحرير هذه الأركان، والتعرض لأهم الإشكالات المتعلقة بها، والسعي في جوابها في كلامه عن ضوابط الاختيار تحت مبحث: ضوابط عامة، والذي خصه بأركان القراءة الصحيحة، أو ما وسمه بضوابط القبول.

وقد حصر المؤلف مناهج القراء في (الاختيار) في أربعة مناهج عامة:

1- المنهج الأثري: الذي يعتمد الأثر والنقل والرواية في الاختيار.

2- المنهج اللغوي: الذي يعتمد على اللغة وفصاحتها في الاختيار.

3- المنهج المعنوي: الذي يعتمد على معنى الآية وتفسيرها في الاختيار.

4- المنهج الرسمي: الذي يعتمد على قضية تتعلق برسم المصحف العثماني.

مزايا الكتاب

من المزايا المنهجية لهذا الكتاب عناية المؤلف بتحرير المسائل والتأصيل لها، بدءا من تحرير محل النزاع بدقة، مرورا باستعراض معطياته وتمييز درجة الإشكالات، انتهاء بالنتائج المحررة المنضبطة، والتي إن اختلف في بعضها إلا أنه لا بد من التسليم بانضباط المنهج العلمي الذي تعامل به المؤلف مع هذه المسائل.

ومن المزايا ما يلمحه القارئ لهذا الكتاب من عدم قفز كاتبه على الأفكار إلى النتائج، بل ربما أطال في صفحات حتى يصل إلى نتيجة كان من الممكن أن تحصل دون ذلك، وهي في هذا المقام مزية لا عيب؛ فهو يبني بناء تستقر فصوله اللاحقة على سابقتها، فالعناية بتأصيلها وتثبيتها بقوة في غاية الأهمية في بحث المسائل اللاحقة عليها والمتفرعة عنها بعد ذلك.

ومن المزايا أيضا التركيز في موضوع البحث وعدم التفرع والاستطراد، فلا شك أن مثل هذا الموضوع تشتبك معه كثير من المسائل الأخرى، التي ربما لو تعرض لها المؤلف لتفرع بموضوعه تفرعا يشوش على مقصوده الأساس من الكتاب، وقد أحسن المؤلف في تمييز هذه المسائل وعدم التفرع إليها.

ومن المزايا كذلك كثرة الأمثلة والتطبيقات في كل مسألة أصلية أو فرعية تعرض لها المؤلف في الكتاب، مع تنوع مصادرها، وحسن العزو لها.

ويلمس القارئ لهذا الكتاب أثر تخصص المؤلف في موضوع كتابه، وانشغاله به لسنوات، فعلى الرغم من اتساع إطار موضوع الكتاب، إلا أن المؤلف قارب موضوع كتابه مقاربة متينة، تتسم بالجودة والتحرير.

وامتاز المؤلف بحسن أسلوبه، وجودة لغته، وحسن تبويب الكتاب وتقسيمه، وكذلك الترتيب للأبواب والفصول والمباحث. ولم يكتف المؤلف في تلخيص أفكاره بنتائج البحث في آخر الكتاب؛ بل عقد خلاصة في نهاية أكثر الفصول، تستعرض أهم نتائج الفصل، وهو مفيد ونافع في الانتقال من فصل إلى آخر.

المآخذ على الكتاب

من المآخذ المنهجية على الكتاب
وقوع تكرار كثير فيه، ما سبب تشويشا وإرباك لدى القارئ، سواء من النقول عن أهل العلم أو من كلام المؤلف نفسه، وكان يكفي في أكثرها الإحالة على ما سبق، أو الاقتصار على محل الشاهد. ومن المآخذ الفنية على الكتاب افتقاره إلى فهرس للأعلام، وهو مهم في مثل هذا البحث. كما فات المؤلف التعريف ببعض الكتب المركزية في علم القراءات. 

توصيات المؤلف

أوصى المؤلف في ذيل نتائج البحث بإعداد دراسات مفصلة عن منهج كل إمام من أئمة الاختيار في اختياره، والذي سيكشف عن مناهج أهل العلم في الاختيار بصورة أكثر دقة، وضوابطهم في قبول الاختيارات وردها، إلى غير ذلك من المسائل المهمة التي تعرض هذا الكتاب القيم لها بصورة عامة، مما يعد تكميلا لمباحثه وتفريعا عليها.

كما أوصى المؤلف باطلاع المتخصصين عليه، والاستفادة منه في تكميل المسائل المشتبكة مع موضوعه مما لم يتعرض له المؤلف، وتسليط الضوء على منهجية الكاتب في مقاربة الإشكال محل الدراسة، وكذلك توصيته باختصاره وتهذيبه لتقريبه على الدارسين، وتيسيره على القارئين.

يبقى أن نشير إلى أن أصل هذا الكتاب رسالة علمية أعدها المؤلف لنيل درجة الماجستر من جامعة أم القرى في مكة المكرمة. والكتاب صدرت طبعته عن كرسي القرآن الكريم وعلومه في جامعة الملك سعود.

* مادة المقال مستفادة من موقع (مركز تفسير للدراسات القرآنية) بتصرف.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة