- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:مواقف نبوية
التنافس في الطاعات والمسارعة إلى الخيرات خلق عظيم، لا يتصف به إلا أصحاب الهمة العالية، وقد أمر الله تعالى به في كتابه العزيز، قال الله عز وجل: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض}(آل عمران:133)، وقال تعالى: {فاستبقوا الخيرات}(البقرة:148)، قال السعدي: "والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها، يتضمن فعلها، وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات، فهو السابق في الآخرة إلى الجنات، فالسابقون أعلى الخلق درجة، والخيرات تشمل جميع الفرائض والنوافل، من صلاة، وصيام، وزكوات، وحج، عمرة، وجهاد، ونفع متعد وقاصر". وقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على اغتنام الفرص في المسارعة والحرص على الطاعات والتنافس في الخيرات، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) رواه الترمذي وصححه الألباني.
والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف والأمثلة الدالة على مسارعة الصحابة رضوان الله عليهم إلى الطاعات وتنافسهم في والخيرات.. ومن هذه المواقف ذلك الموقف الذي دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بعض فقراء الصحابة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور (أصحاب الأموال الكثيرة) بالدرجات العلى والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحد أفضل منكم، إلا من صنع مثل ما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر (عقب) كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة. قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) رواه مسلم.
قال ابن الجوزي: "وهذا الحديث يتضمن شكوى الفقراء وغبطتهم للأغنياء، كيف ينالون الأجر بالصدقة، وهم لا يقدرون، فأخبرهم أنهم يثابون على تسبيحهم وتحميدهم وأفعالهم الخير كما يثاب أولئك على الصدقة".
وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: (أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون؟ إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أياتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر).
قال النووي: "قوله صلى الله عليه وسلم: (وفي بضع أحدكم صدقة): هو بضم الباء، ويطلق على الجماع.. وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات". وقال القرطبي: "ومقصود هذا الحديث: أن أعمال الخير إذا حسنت النيات فيها تنزلت منزلة الصدقات في الأجور، ولا سيما في حق من لا يقدر على الصدقة. ويفهم منه: أن الصدقة في حق القادر عليها أفضل له من سائر الأعمال القاصرة على فاعلها".
لم يكن قول فقراء الصحابة رضي الله عنهم: (ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم) انطلاقا من حسد لإخوانهم الأغنياء، أو لرغبة في المال وتطلع إلى الغنى، ولكن كلامهم خرج مخرج الغبطة والحرص على فعل الخيرات والطاعات، ليحوزوا المرتبة التي امتاز بها الأغنياء بنفقاتهم وصدقاتهم، ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها) رواه البخاري. والحسد هنا يعني الغبطة، وليست من الحسد المذموم، وإنما أطلق عليها الحسد مجازا، قال ابن حجر في فتح الباري: "وأما الحسد المذكور في الحديث فهو الغبطة، وأطلق الحسد عليها مجازا، وهي أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه، والحرص على هذا يسمى منافسة، فكأنه قال في الحديث: لا غبطة أعظم أو أفضل من الغبطة في هذين الأمرين".
وقال ابن عثيمين: "قوله: (أن أناسا) هؤلاء هم الفقراء قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (ذهب أهل الدثور) أي الأموال الكثيرة (بالأجور) أي الثواب عليها، وليس قصدهم بذلك الحسد، ولا الاعتراض على قدر الله، لكن قصدهم لعلهم يجدون أعمالا يستطيعونها يقومون بها تقابل ما يفعله أهل الدثور".
وقال ابن هبيرة: "قولهم: (ذهب أهل الدثور) يعني أهل الأموال الكثيرة، ثم عللوا ذهاب القوم بالأجور، فقالوا: يتصدقون بفضول أموالهم. وهذا القول لم يصدر من أولئك السادة الذين وصفهم الله عز وجل بقوله: {الذين لا يجدون ما ينفقون}(التوبة:91) خارجا مخرج الحسد للأغنياء على ما في أيديهم من الدنيا بل منافسة في الفضيلة، لذلك وصفهم الله عز وجل فقال: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون}(التوبة:92) فنافسوا فيما يتنافس فيه المتنافسون".
وذكر ابن عثيمين الكثير من فوائد هذا الموقف والحديث النبوي، فقال: "من فوائد هذا الحديث: مسارعة الصحابة رضي الله عنهم وتسابقهم إلى العمل الصالح. أن الصحابة رضي الله عنهم يستعملون أموالهم فيما فيه الخير في الدنيا والآخرة، وهو أنهم يتصدقون. أن الاعمال البدنية يشترك فيها الغني والفقير، لقولهم: (يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم) وهو كذلك، وقد يكون أداء الفقير أفضل وأكمل من أداء الغني. أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح للفقراء أبوابا من الخير، لقوله: (أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به) وذكر الأبواب. تقرير المخاطب بما لا يمكنه إنكاره، لقوله: (أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به) لأن هذا أبلغ في إقامة الحجة عليه. أن ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من الأعمال كله صدقة، لكن هذه الصدقة منها واجب، ومنها غير واجب، ومنها متعد (للغير)، ومنها قاصر.. حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم حيث ضرب المثل الذي يقتنع به المخاطب، وهذا من حسن التعليم أن تقرب الأمور الحسية بالأمور العقلية، وذلك في قوله: (أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)".
لقد فتح النبي صلى الله عليه وسلم للفقراء أبوابا كثيرة من الخير والصدقة، ووسع وعمم مفهوم الصدقة حتى شملت العادات التي يخلص أصحابها في نياتهم، فالصدقة ليست مقصورة على المال فحسب، بل تشمل كل أنواع المعروف والخير.. ومن المعلوم من أحاديث وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن أبواب الصدقة غير مقصورة على ما ورد هنا في حديث الفقراء، بل وردت أعمال أخرى في أحاديث نبوية كثيرة أخذت وصف الصدقة، منها: التبسم في وجوه الآخرين، وإماطة الأذى والشوك عن طريق الناس، وسقي الماء، وإرشاد الأعمى، وإغاثة الملهوف، والسعي في حاجة الناس، والقرض الحسن، والتفريج عن المسلمين، ونفقة الرجل على أهله، بل إن كل ما هو داخل في لفظة "المعروف" يعتبر صدقة من الصدقات..