- اسم الكاتب:\"في ظلال القرآن\"
- التصنيف:خواطـر دعوية
سؤال كثيرا ما يأتي على قلوب بعض المؤمنين ـ خصوصا في فترات ظهور الكفر واستعلائه، وأفول الحق واستخزائه، وانتفاش الباطل وانكماش الحق، وتسلط الظلم وكثرة القهر وتجبر سلطان الكفر والنفاق على رقاب أهل الإيمان وسومهم سوء العذاب، قتلا وسجنا وقهرا.. فعندئذ تشرئب القلوب الطيبة إلى بصيص الرحمة الربانية، وتتساءل الألسنة عن سبب تأخر نصر الله لأوليائه المؤمنين.
وهذه سنة قديمة سطرها القرآن الكريم في ثناياه لتكون درسا لكل مؤمن يأتي في أي زمن من الأزمان {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله } والإجابة من الله تعالى واضحة جلية {ألا إن نصر الله قريب}. [ولكنكم قوم تستعجلون].
وتأخر النصر له حكمته عند الله، وقد تعرض صاحب الظلال لهذه الحكم وأسباب تأخر النصر فسطر كلاما بديعا عند تفسير قوله تعالى: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا}.. فقال رحمه الله:
"فقد ضمن للمؤمنين إذن أنه تعالى يدافع عنهم، ومن يدافع الله عنه فهو ممنوع حتما من عدوه، ظاهر حتما على عدوه، ففيم إذن يأذن لهم بالقتال؟ وفيم إذن يكتب عليهم الجهاد؟ وفيم إذن يقاتلون فيصيبهم القتل والجرح.. والجهد والمشقة والتضحية والآلام؟ والعاقبة معروفة، والله قادر على تحقيق العاقبة لهم بلا جهد ولا مشقة ولا تضحية ولا ألم ولا قتل ولا قتال؟
والجواب: أن حكمة الله هي العليا، وأن لله الحجة البالغة.. والذي ندركه نحن البشر من تلك الحكمة ويظهر لعقولنا ومداركنا من تجاربنا ومعارفنا أن الله تعالى لم يرد أن يكون حملة دعوته وحماتها من "التنابلة" الكسالى الذين يجلسون في استرخاء، ثم يتنزل عليهم نصره سهلا هينا بلا عناء، لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن، ويتوجهون إلى الله بالدعاء كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الاعتداء!
نعم إنهم يجب أن يقيموا الصلاة، وأن يرتلوا القرآن، وأن يتوجهوا الى الله بالدعاء في السراء والضراء، ولكن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة الله وحمايتها، إنما هي الزاد الذي يتزودونه للمعركة، والذخيرة التي يذخرونها للموقعة، والسلاح الذي يطمئنون إليه وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه ويزيدون عنه سلاح التقوى والايمان والاتصال بالله.
لقد شاء الله أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم، كي يتم نضجهم هم في أثناء المعركة، فالبنية الإنسانية لا تستيقظ كل الطاقات المذخورة فيها.. كما تستيقظ وهي تواجه الخطر، وهي تدفع وتدافع، وهي تستجمع كل قوتها لتواجه القوة المهاجمة.. وعندئذ تتحفز كل خلية بكل ما أودع فيها من استعداد لتؤدي دورها، ولتتساند مع الخلايا الأخرى في العمليات المشتركة، ولتؤتي أقصى ما تملكه، وتبذل آخر ما تنطوي عليه، وتصل إلى أكمل ما هو مقدور لها وما هي مهيأة له من الكمال.
والأمة التي تقوم على دعوة الله في حاجة الى استيقاظ كل خلاياها، و احتشاد كل قواها، وتوفز كل استعدادها، وتجمع كل طاقاتها؛ كي يتم نموها، ويكمل نضجها، وتتهيأ بذلك لحمل الأمانة الضخمة والقيام عليها.
والنصر السريع الذي لا يكلف عناء، والذي يتنزل هينا لينا على القاعدين المستريحين، يعطل تلك الطاقات عن الظهور، لأنه لا يحفزها ولا يدعوها، وفوق ذلك أن النصر السريع الهين اللين سهل فقدانه وضياعه:
أولا: لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات عزيزة.
ثانيا: لأن الذين نالوه لم تدرب قواهم على الاحتفاظ به، ولم تشحذ طاقاتهم وتحشد لكسبه، فهي لا تتحفز ولا تحتشد للدفاع عنه.
وهناك التربية الوجدانية والدربة العملية تلك التي تنشأ من النصر والهزيمة، والكر والفر، والقوة والضعف، والتقدم والتقهقر، ومن المشاعر المصاحبة لها.. من الأمل والألم، ومن الفرح والغم، ومن الاطمئنان والقلق، ومن الشعور بالضعف والشعور بالقوة.. ومعها التجمع والفناء في العقيدة والجماعة والتنسيق بين الاتجاهات في ثنايا المعركة وقبلها وبعدها وكشف نقاط القوة ونقاط الضعف، و تدبير الأمور في جميع الحالات.. وكلها ضرورية للأمة التي تحمل الدعوة وتقوم عليها وعلى الناس.
من أجل هذا كله.. ومن أجل غيره مما يعلمه الله.. جعل الله دفاعه عن الذين آمنوا يتم عن طريقهم هم أنفسهم، ولم يجعله لقية تهبط عليهم من السماء بلا عناء.
حكمة إبطاء النصر
والنصر قد يبطئ على الذين ظــلموا و أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا ان يقولوا ربنا الله، فيكون هذا الإبطاء لحكمة يريدها الله:
1 ـ قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها، ولم يتم بعد تمامها، ولم تحشد بعد طاقاتها، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات، فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكا لعدم قدرتها على حمايته طويلا.
2- وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزا ولا غاليا، لا تبذله هينا رخيصا في سبيل الله.
3- وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر، إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها الى الله.
4- وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل ولا تجد لها سندا إلا الله، ولا متوجها إلا اليه وحده في الضراء وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن الله به، فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها الله به.
5- و قد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحيتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حمية لذاتها، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئا من المشاعر الأخرى التي تلابسه، وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليرى، فأيها في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله".
6- كما قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية خير، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصا، ويذهب وحده هالكا، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب في الغمار!
7- و قد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة لم ينكشف زيفه للناس تماما، فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصارا من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعد بفساده و ضرورة زواله، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة، فيشاء الله أن يظل الباطل حتى يتكشف عاريا للناس، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية.
8 - و قد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الخير والحق والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة، فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لا يستقر لها قرار، فيظل الصراع قائما حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر، ولاستبقائه!
ومن أجل هذا كله ـ ومن أجل غيره مما يعلمه الله ـ قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام، مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية.