مَالِكُ بْن التَّيِّهَان والنبي صلى الله عليه وسلم

0 2

من مواقف السيرة النبوية التي فيها الكثير من الفوائد والعبر: موقف مالك بن التيهان الأنصاري رضي الله عنه والذي قام فيه بكرم وحسن الضيافة مع النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والذي قال له فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (المستشار مؤتمن). 
قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء": "أبو الهيثم، مالك بن التيهان (بتشديد الياء وتخفيفها) الأنصاري.. قال الواقدي: كان أبو الهيثم يكره الأصنام في الجاهلية ويؤفف بها (يضجر منها ويحتقرها)، ويقول بالتوحيد هو وأسعد بن زرارة، وكانا من أول من أسلم من الأنصار بمكة. ويجعل في الثمانية الذين لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وفي أهل العقبة الأولى الاثني عشر.. آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين عثمان بن مظعون، وشهد بدرا والمشاهد".

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، قال: ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع يا رسول الله، قال: أما أنا والذي نفسي بيده، لأخرجني الذي أخرجكما، قوموا، فقاموا معه، فأتى رجلا من الأنصار (مالك بن التيهان الانصاري) فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحبا وأهلا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين فلان؟ قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ثم قال: الحمد لله ما أجد اليوم أكرم أضيافا مني، فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا من هذه وأخذ المدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إياك والحلوب، فذبح لهم، فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: والذي نفسي بيده لتسئلن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم) رواه مسلم.
قال ابن عبد البر:"وفي هذا الحديث ما كان القوم عليه في أول الإسلام من ضيق الحال وشظف العيش، وما زال الأنبياء والصالحون يجوعون مرة ويشبعون أخرى".

وفي رواية لأبي داود والترمذي ـ صححها الألباني ـ: قال صلى الله عليه وسلم لأبي مالك بن التيهان الانصاري: (هل لك خادم؟ قال: لا، قال: فإذا أتانا سبي (أسرى) فأتنا. فأتي النبي صلى الله عليه وسلم برأسين (أسيرين) ليس معهما ثالث. فأتاه أبو الهيثم فقال النبي صلى الله عليه وسلم:اختر منهما، فقال: يا رسول الله اختر لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن المستشار مؤتمن، خذ هذا، فإني رأيته يصلي، واستوص به معروفا، فانطلق أبو الهيثم الى امرأته فأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت امرأته: ما أنت ببالغ حق ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا بأن تعتقه، قال فهو عتيق، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يبعث نبيا ولا خليفة إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر (خاصة الرجل الذي يبطنون أمره، ويخصهم بمزيد التقريب، ويسمى به الواحد والجمع)، وبطانة لا تألوه خبالا (لا تقصر في إفساده)، ومن يوق بطانة السوء فقد وقي (حفظ)).

ـ ذكر ابن حجر الكثير من الفوائد من حديث وموقف النبي صلى الله عليه وسلم مع مالك بن التيهان الأنصاري رضي الله عنه فقال: "لا بأس بذهاب المحتاج إلى بعض أغنياء أصدقائه لقضاء حاجته.. فيه: ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وكبار أصحابه من التقلل من الدنيا وما ابتلوا به من ضيق العيش أحيانا.. وفيه: جواز سماع كلام الأجنبية مع أمن الفتنة..  فيه: دخول منزل الزوج المعلوم رضاه بإذن زوجته إذا انتفت الخلوة المحرمة، إذ وجه انتفائها أنه صلى الله عليه وسلم محرم لكل أنثى، وإذنها فى منزل زوجها إذا علمت رضاه بذلك.. فيه: أنه يتأكد إكرام الضيف وإظهار السرور والبشر والفرح بقدومه فى وجهه.. فيه: جواز الشبع، وما ورد في ذمه محمول على شبع مضر، أو على المداومة عليه، لأنه يقسى القلب، وينسى المحتاجين. وأما السؤال عن النعيم الذى تضمنه قوله: {ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم}(التكاثر:8)، قال القاضي (عياض): هو سؤال عن القيام بحق شكره. وقال النووى: الذي نعتقده أيضا أنه سؤال تعداد النعم وإعلام بالامتنان بها، وإظهار الكرامة بإسباغها، لا سؤال توبيخ وتقريع ومحاسبة.. (إياك والحلوب) وإنما نهاه من ذبحها، شفقة على أهله بانتفاعهم باللبن مع حصول المقصود بغيرها.. وفيه: أنه ينبغي للمستشار أن يبين سبب إشارته بأحد الأمرين ليكون ذلك أعون للمستشير على الامتثال، وأنه يستدل على خيرية الإنسان بصلاته، وسره قوله تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}(العنكبوت: 45).. وفي الحديث الإحسان للمضيف بالفعل إن وجد شيئا وإلا فبالوعد، وأنه لا بأس له أن يطالب بما وعدته به، وتأكد النصح للمسلمين لا سيما المستشير، والوصية بالمعروف في حق الضعفاء".

ـ (إن الله لم يبعث نبيا ولا خليفة إلا وله بطانتان):

2ـ قال المناوي: "قال ابن حجر: البطانة بكسر الموحدة اسم جنس يشمل الواحد والمتعدد (وبطانة لا تألوه خبالا) أي لا تقصر في إفساد أمره، وهو اقتباس من قوله سبحانه وتعالى {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا}(آل عمران:118)، {ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا}(النساء:38)، واستشكل هذا التقسيم بالنسبة للنبي، لأنه وإن جاز عقلا أن يكون في من يداخله من يكون من أهل الشر، لكنه لا يتصور من أن يصغي إليه ولا يعمل بقوله لعصمته، وأجيب بأن في بقية الحديث الإشارة إلى سلامة النبي من ذلك وهو قوله: (ومن يوق بطانة السوء) بأن يعصمه الله تعالى منها (فقد وقي) أي وقي الشر كله، فهذا هو منصب النبوة الذي لا يجوز عليهم غيره وقد يحصل لغيرهم بتوفيقه تعالى وهدايته". وقال أيضا ـ ابن حجر ـ: "ويؤيده قوله فى الحديث: (والمعصوم من عصمه الله) فإنه بمنزلة قوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، ولا يأمرنى إلا بخير)، ويحتمل إبقاء الحديث على عمومه، وأن للنبي صلى الله عليه وسلم بطانة شر من الإنس أيضا إلا أن الله عصمه منهم. وظاهر سياق الحديث، أن المراد بالخليفة هنا كل من جعلت له خلافة ونظر فى شىء، فإن ذكره صلى الله عليه وسلم ذلك في هذا السياق يشعر بمدحه لزوجة أبى الهيثم وأنها بطانة خير".

ـ المستشار مؤتمن:

ـ قال الهروي: "ومعنى الحديث أن من استشار ذا رأي في أمر اشتبه عليه وجه صلاحه فقد ائتمنه واستشفى برأيه، فعليه أن يشير عليه بما يراه النصح فيه، ولو أشار عليه بغيره فقد خانه، والحاصل أن المستشار أمين فيما يسأل من الأمور، فلا ينبغي أن يخون المستشير بكتمان مصلحته وامتناع نصيحته". وقال السندي: "قوله صلى الله عليه وسلم: (المستشار مؤتمن) أي: أمين فلا ينبغي له أن يخون المستشير بكتمان المصلحة والدلالة على المفسدة". وقال المباركفوري: "ومعناه أن المستشار أمين فيما يسأل من الأمور، فلا ينبغي أن يخون المستشير بكتمان مصلحته".

السيرة النبوية بأحداثها وتفاصيلها تحمل بين ثناياها الكثير من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، والتي فيها الكثير من الفوائد والعبر التي ينبغي التعرف عليها والاستفادة منها، ومن هذه المواقف: موقفه وحديثه صلى الله عليه وسلم مع مالك بن التيهان الأنصاري رضي الله عنه.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة