وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة (2)

0 85

تحدثنا في مقالنا السابق عن بنية العين وتركيبها، ونتابع في هذا المقال بيان مهمة العين وما زودها الله به من خصائص؛ ليتضح لنا مدى الإعجاز الإلهي في خلقه سبحانه، فنقول:

إن قيام عدسات العين برسم صورة لما حولها من أجسام على جدار العين الداخلي لا يعني شيئا للكائن الحي، إذا لم يتم إرسال هذه الصور إلى الدماغ لكي يدركها. إن أول خطوة من خطوات الإدراك هو تحويل شدة الضوء، وكذلك لونه لكل نقطة من نقاط الصورة المكونة إلى إشارات كهربائية، يتم نقلها بطريقة ما إلى الدماغ. إن الجهاز الذي يقوم بعملية التحويل هذه هي شبكية العين، التي تغطي ما مساحته أحد عشر سنتيمترا مربعا، أو ألف ومائة مليمتر مربع من الجدار الداخلي للعين في الجزء الخلفي منها والمقابل للعدسة، أي ما يعادل (72%) من مساحة جدار العين الداخلي. وتتكون الشبكية من نوعين من الخلايا الحساسة للضوء؛ النوع الأول: العصيات: التي تستجيب لشدة الضوء فقط، بغض النظر عن لونه، وهي شديدة الحساسية للضوء الخافت، وكذلك لحركة الأجسام، ويبلغ عددها مائة وثلاثون مليون خلية تقريبا. النوع الثاني: المخاريط، التي تستجيب للضوء الشديد، أي أنها منخفضة الحساسية، ولكنها في المقابل قادرة على تمييز الألوان، حيث يوجد منها ثلاثة أنواع تستجيب للألوان الرئيسة الثلاثة، وهي: الأحمر، والأخضر، والأزرق، ويبلغ عددها سبعة ملايين خلية تقريبا، موزعة بنسبة (64%) للحمراء، و(32%) للخضراء، و(4%) للزرقاء. وتتوزع الخلايا الضوئية بكثافة غير منتظمة على سطح الشبكية، حيث تصل كثافتها إلى ما يقرب من مائة وستون ألف في المليمتر المربع الواحد عند مركزها، ثم تقل تدريجيا عند الأطراف.

وعلى الرغم من أن عدد المخاريط أقل بكثير من العصي، إلا أن معظمها موجود في المقلة، التي لا يتجاوز قطرها ثلاثة مليمترات، وفي مركز المقلة توجد منطقة لا يتجاوز قطرها ملليمتر ونصف، تسمى النقرة، فيها أكبر كثافة للمخاريط، والتي تم تصغير قطرها بالنسبة للمخاريط الأخرى؛ وذلك للحصول على أكبر كثافة ممكنة، وفي مركز النقرة توجد منطقة تخلو تماما من العصي. إن منطقة المقلة تقع تماما أمام العدسة البلورية، وهي المسؤولة عن الرؤية المركزية، فجميع الأجسام التي تقع ضمن زاوية رؤيا، تبلغ سبعة عشر درجة، ترتسم صورها على هذه المنطقة، التي لا يتجاوز قطرها الثلاث مليمترات. فعلى سبيل المثال، فإن صورة الشمس أو القمر ليلة البدر تحتل مساحة على النقرة، لا يتجاوز قطرها سدس ملليمتر؛ ولهذا السبب فإنه يلزم تحريك العين باتجاه الشيء المراد رؤيته للحصول على صورة بأكبر قدر من الوضوح. إن المسافة الفاصلة بين مخروطين متجاورين في النقرة لا يتجاوز ميكرومتر ونصف، وهذا الرقم لا يزيد كثيرا عن طول موجة الضوء الأحمر البالغ سبعة أعشار الميكرومتر، علما بأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال تمييز الأبعاد التي يقل طولها عن طول الموجة المستخدمة لرؤيتها. ولتوضيح ضخامة هذا العدد من الخلايا الحساسة للضوء، نذكر أن عدد الحبيبات الفوسفورية بألوانها الثلاثة الموجودة على شاشات التلفزة الملونة لا يتجاوز المليون حبيبة، موزعة على مساحة قد تصل لنصف متر مربع. ولا زال المهندسون يعملون جاهدين على تصنيع أجهزة تلفزة بقدرة تمييز عالية، تضاهي قدرة تمييز العين البشرية بما يسمى أجهزة التلفزة عالية الوضوح. أما المناظر التي تقع خارج نطاق الرؤية المركزية، والتي قد تصل زاوية الرؤية فيها إلى ما يقرب من مائتي درجة، فإنها ترتسم على بقية الشبكة، ولكن بقدرة تمييز أقل بكثير من تلك التي في المقلة.

إن مهمة العصي والمخاريط كخلايا حساسة للضوء -كما سبق- هو تحويل شدة الضوء، وكذلك لونه إلى إشارات كهربائية، يتم إرسالها من خلال العصب البصري إلى الدماغ، ليقوم برسم صورة الشيء المرئي في خلاياه العصبية. إن عملية التحويل هذه عملية بالغة التعقيد، تمكن العلماء من كشف بعض أسرارها، ولا زالوا يجهلون كثيرا من آليات عملها، ومما كشفه العلماء هو أنه يوجد في هذه الخلايا نوع من البروتينات، يسمى (الرودبسن) له أربعة أشكال؛ فالشكل الأول موجود في العصي، ويستجيب لجميع ترددات الطيف المرئي، والذي يمتد من (400) نانومتر إلى (700) نانومتر. أما الأشكال الثلاثة الباقية فهي موجودة في أنواع المخاريط الثلاثة، بحيث يوجد شكل واحد فقط لكل نوع من هذه الأنواع، فالبروتين الموجود في المخاريط الحمراء يستجيب لترددات المنطقة الحمراء من الطيف المرئي، وكذلك هو الحال للبروتينات الموجودة في المخاريط الخضراء والزرقاء. وعندما يسقط فوتون من الضوء على أحد العصي أو المخاريط، وله تردد يقع ضمن نطاق استجابته، فإنه يقوم بتفكيك أحد روابط البروتين الحساس للضوء، ما يجبره على تغيير شكله، ثم يقوم هذا البروتين المعدل بقدح سلسلة طويلة ومعقدة من التفاعلات الكيميائية، تنتهي بإنتاج نبضة كهربائية، تذهب باتجاه العصبونات المرتبطة بهذه الخلية الحساسة للضوء. وتتكون خلايا العصي والمخاريط من جزء أمامي، يحتوي على رزمة كبيرة من الأقراص، التي تحتوي على البروتين الحساس للضوء، وجزء خلفي يحتوي على النواة وعلى المكونات، التي تنتج النبضات الكهربائية وعلى أطراف عصبية ترتبط بالخلايا العصبية المتصلة بها.

أما المرحلة التالية من عملية الإبصار، فهي إرسال النبضات الكهربائية، التي تنتجها الخلايا الحساسة الضوء إلى مركز الإبصار في الدماغ. وبما أن عدد خلايا العصي والمخاريط في الشبكية يصل إلى ما يقرب من مائة وسبعة وثلاثين مليون، فإن ربط هذا العدد الهائل من الخلايا بمركز الإبصار باستخدام ليف بصري واحد لكل خلية، يتطلب أن يكون قطر العصب البصري خمسة أضعاف مما هو عليه الآن، وهذا سيحتل حيزا كبيرا من حجم الدماغ، وكذلك من مساحة الشبكية؛ ولذلك فقد تم تقليص عدد ألياف العصب البصري إلى ما يزيد قليلا عن مليون ليف، ما تطلب إنشاء شبكة معقدة وذكية من الخلايا العصبية داخل الشبكية، تقوم بربط مخارج مائة وثلاثين مليون من العصي وسبعة ملايين من المخاريط بمداخل مليون ليف عصبي. ويوجد في شبكة التحويل هذه أربعة أنواع من الخلايا العصبية، تقوم بوظائف متعددة ومحددة ومعقدة، لا زال العلماء يعملون جاهدين لكشف تركيبها، وفهم وظائفها وآليات عملها.

إن أول طبقة من الخلايا العصبية التي تلي الخلايا الحساسة للضوء تحتوي على نوعين من الخلايا؛ النوع الأول: (الخلايا ثنائية القطبية) وهي تقوم بعدة وظائف؛ أهمها تجميع مخارج عدة خلايا ضوئية، لتنتج مخرجا واحدا فقط؛ وذلك لتقليص عدد الألياف الذاهبة للدماغ، وكذلك التحكم بعدد النبضات التي تمرر من خلالها باتجاه الدماغ. ويوجد أحد عشر نوعا من الخلايا ثنائية القطبية، منها نوع واحد يرتبط بالعصي، أما العشرة الباقية فترتبط بالمخاريط، وقد يصل عدد العصي المرتبطة بخلية عصبية ثنائية القطبية إلى ما يزيد عن مائة عند أطراف الشبكية، وينزل إلى عدة عصي عند مركزها. وبما أن المخاريط الموجودة في مركز الشبكية هي المسؤولة عن الرؤية المركزية، وكذلك عن تحديد اللون، فإنه يتم في الغالب ربط مخروط واحد فقط بخلية عصبية واحدة، وقد يزيد إلى عدة مخاريط عند الأطراف. ولسائل أن يسأل عن الفائدة من وجود هذا العدد الكبير من العصي، وينتهي الأمر بربط مائة منها بخلية عصبية واحدة؟ والجواب على هذا، هو لزيادة مدى رؤية العين من خلال زيادة مساحة الشبكية، وكذلك زيادة حساسيتها للضوء الخافت جدا، حيث أن احتمالية التقاط عدد قليل من الفوتونات الضوئية، يزداد مع زيادة عدد العصي، وغالبا ما يتم هذا خارج منطقة الرؤية المركزية، حيث لا يلزم درجة تمييز عالية.

أما النوع الثاني من الخلايا العصبية، فهي ما يسمى بـ (الخلايا الأفقية) وهي ترتبط من خلال أطرافها بالوصلات التي تربط العصي والمخاريط بالخلايا ثنائية القطبية، وهي تعمل على تنسيق وتنظيم معدلات مرور النبضات الكهربائية الخارجة من الخلايا ثنائية القطبية، فقد يوقف بعضها تماما، أو يقلل معدلات بعضها، ولا يزال العلماء يجهلون كثيرا من وظائفها، وآليات عملها.

أما النوع الثالث، فهي ما يسمى بـ (خلايا الجينجليون) وهي ترتبط من طرف بالخلايا ثنائية القطبية، حيث تستقبل منها النبضات الكهربائية، وترتبط بالألياف العصبية من الطرف الآخر، حيث تمرر النبضات الكهربائية من خلاله إلى خلايا الدماغ في مركز الإبصار. وقد ترتبط كل خلية من هذه الخلايا بعدد من الخلايا ثنائية القطبية؛ وذلك للحصول على مزيد من التقليص في عدد الألياف اللازمة لنقل الصور إلى الدماغ والقيام بالمعالجة، التي تتعلق بألوان الصور.

أما النوع الرابع من الخلايا العصبية، فهي (خلايا أمسراين) وهي كالخلايا الأفقية، تعمل على تنسيق عمل خلايا الجينجليون المتجاورة من خلال تنظيم معدلات مرور النبضات الكهربائية.

تتوزع هذه الخلايا العصبية على جميع سطح الشبكية؛ ولذلك فإن جميع الألياف العصبية الخارجة منها، تسيير بشكل شعاعي باتجاه مركز الشبكية، وتتجمع في منطقة صغيرة، تسمى القرص البصري، تقع على بعد خمسة ملليمترات من مركز الشبكية، لتخرج هذه الألياف من جدار العين على شكل كيبل، يسمى العصب البصري، الذي يبلغ قطره عند الشبكية مليمتر ونصف. وتخلو منطقة العصب البصري عند الشبكية تماما من الخلايا الحساسة للضوء؛ ولذلك فإن أي صورة ترتسم عليها لا يمكن رؤيتها أبدا؛ ولذلك سميت هذه المنطقة بالبقعة العمياء. ولكن، وبسبب أن مركز الإبصار يبني الصورة النهائية من صورتين مأخوذتين من عينين، فإنه من النادر أن تظهر البقعة العمياء في المشاهد التي نراها. وقد يتساءل البعض عن سبب خلو القرص البصري من العصي والمخاريط، وقد يكون الجواب مفاجئا لبعضهم، إذا ما علموا أن الخلايا الحساسة للضوء لا تقع على سطح الشبكية المواجه للضوء القادم من العدسة، بل تقع خلف شبكة معقدة جدا من الخلايا العصبية والألياف العصبية والأوردة والشرايين، وعلى الضوء أن يخترق عدة طبقات من الشبكية، حتى يصل للخلايا الحساسة للضوء.

وما يبعث على السخرية أن يقول أحد العلماء الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر: إن وضع الشبكية بهذا الشكل المقلوب دليل على أن الصدفة هي التي صممت وصنعت هذه العين، فمثل هذا الخطأ في التصميم لا يمكن أن يقع فيه عاقل! وهذا يعني -بحسب استنتاجه- أنه لا وجود للإله الذي يؤمن به بعض البشر، والذي يقولون عنه: إنه لا حدود لعلمه وقدرته. ويقال لقائل هذا: هل يمكن لمن قام بتصميم جميع أجزاء العين البالغة التعقيد على أكمل وجه -كما تبين- يعجز عن إدراك حقيقة أن الخلايا الحساسة للضوء يجب أن توجه باتجاه مصدر الضوء. ولو أن الصدفة هي التي صممت العين -كما يدعي- لكان لزاما أن تكون هذه الخلايا موجهة باتجاه الضوء، فالصدفة لا تفكر ولا تصمم، بل تترك الأشياء تتصرف وفق قوانين الطبيعة، بل إن هذه الشبكية المقلوبة، لهي أكبر دليل على أن الذي قام بتصميمها إله لا حدود لعلمه وقدرته، فلو أننا طلبنا من جميع مهندسي العالم تصميم آلة تصوير تلفازية، يقع فلمها الحساس للضوء خلف شبكة معقدة من الأسلاك، ومن ثم تقوم بوظيفتها على أكمل وجه، لفشلوا فشلا ذريعا في عمل ذلك.
 
وفي المقابل، نجد أنه على الرغم من وجود الخلايا الحساسة للضوء في العين خلف هذه الشبكة المعقدة من الخلايا والألياف العصبية والأوردة والشرايين، إلا أنها تقوم بوظيفتها على أكمل وجه، بحيث يستطيع الإنسان قراءة الأحرف الكتابية الصغيرة على ضوء شمعة، أو حتى على ضوء القمر.

وفي هذه الشبكية المقلوبة يتحدى الله البشر، لا ليصنعوا أجهزة بصرية مثلها، بل فقط ليقوموا بحل لغز قدرة الخلايا الحساسة للضوء على التقاط الضوء، رغم وجود عدة طبقات من الخلايا العصبية والشرايين أمامها. ثم يقال لهذا المدعي العلم: إن العلماء قد تمكنوا أخيرا من كشف سر وجود الخلايا الضوئية بهذا الشكل المعكوس، فقد وجدوا أن هذه الخلايا تستهلك كميات كبيرة من البروتينات والأنزيمات لإتمام عملية تحويل الضوء إلى نبضات كهربائية، وتتخلص كذلك من كميات كبيرة من نواتج التفاعلات الكيميائية، فكان الحل في وضعها ملاصقة لجدار المشيمة؛ لإمدادها بما يلزمها من مواد بشكل متواصل. وكذلك، فإن عدم سقوط الضوء بشكل مباشر على الخلايا قد يحميها من التلف؛ إذ من المعلوم أن النظر إلى الشمس وهي مكسوفة، يسبب العمى، وذلك لتعرضها للضوء فوق البنفسجي، الذي يسبب التلف لمعظم خلايا الكائنات الحية. ولهذه الأسباب تطلب الأمر وضع الخلايا والألياف العصبية أمامها، ولكن بتوزيع بالغ الإتقان، بحيث يمكن للضوء المرئي أن ينفذ من خلال هذه الشبكة المعقدة بكل سهولة ويسر، بينما يتم امتصاص الضوء فوق البنفسجي الضار، وأكبر دليل على نجاح هذا التصميم البارع أن العين تعمل على أكمل وجه، ونرى الصور بمنتهى الوضوح حتى في أخفت الأضواء. ويقال أخيرا لمن يرى أن ثمة خطأ في تصميم الشبكية: هل ترى من عيب في عمل العين، رغم هذا الذي تقول: إنه خطأ في تصميم الشبكية، وصدق الله العظيم القائل في محكم تنزيله: {الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور * ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير} (الملك:3-4).

* مادة المقال مستفادة من موقع (موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة