يا مُحَمَّد ارْفَع رأسك، واشْفَع تُشَفَّع

0 1157

من أعظم نعم الله عز وجل علينا وعلى البشرية كلها بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال الله تعالى عنه: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}( الأنبياء:107)، وقال سبحانه: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}(التوبة: 128). قال ابن كثير في تفسيره: "وقوله: {عزيز عليه ما عنتم} أي: يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها، {حريص عليكم} أي: على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم". وقال السعدي: "{حريص عليكم} فيحب لكم الخير، ويسعى جهده في إيصاله إليكم، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان، ويكره لكم الشر، ويسعى جهده في تنفيركم عنه. {بالمؤمنين رءوف رحيم} أي: شديد الرأفة والرحمة بهم، أرحم بهم من والديهم".
والمتأمل في السيرة النبوية يجد صورا كثيرة يظهر من خلالها مدى رحمة نبينا صلى الله عليه وسلم بأمته، وشفقته بها، وحرصه الشديد على أن تكون في ظل الرحمن وجنته يوم القيامة. ومن أعظم هذه الصور شفاعته صلوات الله وسلامه عليه يوم القيامة لأمته، والتي قال الله عز وجل له فيها: يا محمد، ارفع رأسك، وقل: يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع.

الشفاعة العظمى:
الشفاعة العظمى هي المقام المحمود الذي يذهب فيه الأولون والآخرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشفع لهم عند ربهم، قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}(الإسراء:79): "قال ابن عباس: هذا المقام المحمود مقام الشفاعة، وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد، وقالهالحسن البصري. وقال قتادة: هو أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود الذي قال الله: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا}. قلت: لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما تشريفات يوم القيامة لا يشركه فيها أحد، وتشريفات لا يساويه فيها أحد، فهو أول من تنشق عنه الأرض، ويبعث راكبا إلى المحشر، وله اللواء الذي آدم فمن دونه تحت لوائه، وله الحوض الذي ليس في الموقف أكثر واردا منه، وله الشفاعة العظمى عند الله ليأتي لفصل القضاء بين الخلائق، وذلك بعدما يسأل الناس آدم ثم نوحا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى، فكل يقول: "لست لها"، حتى يأتوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: "أنا لها، أنا لها".
وقال الطبري: "..لعل ربك أن يبعثك يوم القيامة مقاما، تقوم فيه محمودا تغبط فيه، ثم اختلف أهل التأويل في معنى ذلك المقام المحمود، فقال أكثر العلم: ذلك هو المقام الذي هو يقومه يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم".

عن معبد بن هلال العنزي قال: اجتمع رهط من أهل البصرة وأنا فيهم، فأتينا أنس بن مالك واستشفعنا عليه بثابت البناني، فدخلنا عليه فأجلس ثابتا معه على السرير، فقلت: لا تسألوه عن شيء غير هذا الحديث، فقال ثابت: يا أبا حمزة (أنس) إخوانك من أهل البصرة جاءوا يسألونك عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشفاعة، فقال: (حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان يوم القيامة ماج (اضطرب) الناس بعضهم إلى بعض، فيأتون آدم فيقولون له: اشفع لذريتك، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم عليه السلام، فإنه خليل الله، فيأتون إبراهيم فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى عليه السلام، فإنه كليم الله، فيؤتى موسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى عليه السلام، فإنه روح الله وكلمته، فيؤتى عيسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فأوتى، فأقول: أنا لها، فأنطلق فأستأذن على ربي، فيؤذن لي، فأقوم بين يديه فأحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن، يلهمنيه الله، ثم أخر له ساجدا، فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، وقل: يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: رب، أمتي أمتي، فيقال: انطلق، فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة، أو شعيرة من إيمان، فأخرجه منها، فأنطلق فأفعل، ثم أرجع إلى ربي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها، فأنطلق فأفعل، ثم أعود إلى ربي فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل. هذا حديث أنس الذي أنبأنا به. فخرجنا من عنده، فلما كنا بظهر الجبان (الصحراء ويسمى بها المقابر)، قلنا: لو ملنا إلى الحسن فسلمنا عليه وهو مستخف (متغيبا) في دار أبي خليفة، قال: فدخلنا عليه، فسلمنا عليه، فقلنا: يا أبا سعيد، جئنا من عند أخيك أبي حمزة، فلم نسمع مثل حديث حدثناه في الشفاعة، قال: هيه (يقال في استزادة الكلام)، فحدثناه الحديث، فقال: هيه، قلنا: ما زادنا، قال: قد حدثنا به منذ عشرين سنة وهو يومئذ جميع، ولقد ترك شيئا ما أدري أنسي الشيخ، أو كره أن يحدثكم، فتتكلوا، قلنا له: حدثنا، فضحك وقال: {خلق الإنسان من عجل}(الأنبياء:37)، ما ذكرت لكم هذا إلا وأنا أريد أن أحدثكموه، ثم أرجع إلى ربي في الرابعة، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجدا، فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، قال: ليس ذاك لك، أو قال: ليس ذاك إليك، ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي (عظمتي وسلطاني)، لأخرجن من قال: لا إله إلا الله. قال: فأشهد على الحسن أنه حدثنا به، أنه سمع أنس بن مالك أراه قال: قبل عشرين سنة وهو يومئذ جميع (مجتمع القوة والحفظ)) رواه البخاري ومسلم.
وفي رواية: (فأقول: أي رب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله صادقا، قال: فيقول تبارك وتعالى: ليس لك، وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله).

حين يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، وتدنو منهم الشمس، في يوم مقداره خمسين ألف سنة، ويبلغ الغم والكرب منهم ما لا طاقة لهم به، يكلم بعضهم بعضا في طلب من يكرم على الله عز وجل ويشفع لهم عند ربهم، فلم يذهبوا لنبي إلا قال: نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، حتى ينتهوا إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيشفع لهم، ويقال له: (يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع.
وشفاعة نبينا محمد صلوات الله وسلامه عليه من خصائصه، ومن آيات فضله وكرامته، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) رواه البخاري.

لقد جعل الله عز وجل لكل نبي دعوة مستجابة، فكل منهم تعجل دعوته في الدنيا، واختبأ نبينا صلى الله عليه وسلم دعوته شفاعة لأمته يوم القيامة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة) رواه البخاري. وفي رواية لمسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، ‏فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا).‏

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة