- اسم الكاتب:جمال زواري
- التصنيف:خواطـر دعوية
إن شهر الصيام محطة سنوية يتيحها المولى - عز وجل - لعباده المؤمنين؛ كي يتزودوا من معينها الإيماني، ويضاعفوا رصيدهم من الحسنات، ويجروا كشف حساب صادق مع أنفسهم لتدارك التقصير، وتحرير إرادتهم من مكبلات الانطلاق نحو قمة التفوق الإيماني، وتخليص نفوسهم وقلوبهم من منغصات إقبالهم على الله - عز وجل - ومكدرات نقائهم وصفائهم الروحي، وانتقالهم الإيجابي - في ظل الأجواء المناسبة التي يوفرها الشهر الكريم - من الغفلة إلى اليقظة، ومن التقصير إلى التشمير، ومن الكسل إلى العمل، ومن الصدود إلى الإقبال، ومن البخل إلى العطاء، ومن الإحجام إلى الإقدام، ومن الانفلات إلى الانضباط.
ولن يحدث هذا التحول لدى العبد، ولن ينجح في اغتنام هذه الفرصة، ولن يترقى في مدارج القبول ومعارج الوصول، وسوف يخسر الكثير من رصيده الذي اجتهد ويجتهد في تحصيله، إذا لم يتنبه إلى لصوص الصيام، ولم يستطع أن يتحرر من أسرها؛ لأنها إذا لم يسد عليها مداخل نفسه، ويغلق عليها منافذها، ويعمل بحزم على مقاطعتها ومجابهتها ومغالبتها، فإنها ستسرق صيامه، وتحرمه من نفحاته، وتغبنه في صفقته مع مولاه، وتخرجه من الموسم مفلسا مغبونا، يوم يغنم المجدون، ويتوج الفائزون.
ولعل من أخطر هؤلاء اللصوص على صيام الصائم:
1 - القصد المدخول: حيث إن دخول القصد وفساد النية وانحراف الإخلاص من أخطر لصوص الأعمال الصالحة وليس الصيام فحسب، وكلما حرر العبد مقصده، وصحح نيته، وأصلح سريرته، فقد وفر أهم عناصر الحماية لعمله الصالح ككل، وصان صيامه من أحد أهم اللصوص المتربصين به.
2- القلب الملوث:
فالقلب محل توارد أنوار الله ورحماته ونفحاته - وما أكثرها في شهر الصيام - وكلما كان محل الاستقبال طاهرا نظيفا، كان مهيأ ليأخذ نصيبه وافيا منها، أما إذا كان ملوثا بآفات التكدير، ومحجوبا بأسباب التعكير، ومعطوبا بحوالق الدين، فقد أعطى الفرصة للص آخر من لصوص الصيام كي ينتهب رصيده، ويحلق صيامه وقيامه، ويسرق منه تعبه واجتهاده.
3 - اللسان المنفلت:
فاللسان السائب المنفلت يعتبر من أكثر لصوص الصيام إغارة عليه، واستهدافا له، فإذا ما أطلق العبد العنان للسانه فإنه يأتي على رصيده الرمضاني فيذره قاعا صفصفا، ويتسبب في إفلاسه في موسم طاعة، الربح فيه مضمون لمن وفقه الله إليه ويسره عليه؛ لذلك فكلما رابط العبد على باب لسانه، وكان يقظا لانفلاته من عقاله، وشدد الحراسة عليه، أنقذ صيامه من السرقة، ورصيده من الانتهاب من طرف أحد لصوص الصيام المحترفين.
4- العين الزائغة:
من لصوص الصيام كذلك العين الزائغة التي لا يترك صاحبها صورة أو مشهدا أو منظرا - مهما كانت خطورته على صيامه - إلا وحملق فيه بهذه العين، وأمعن فيه النظر، وأرخى لها حبال التنقل بين هذه الصور والمشاهد دون رادع من خشية، ووازع من تقوى، مع فشل ذريع لصاحب هذه العين في معركة غض البصر، على الرغم من أن شهر الصيام فرصة سانحة للمبتلى بذلك كي يتغلب على بلواه هذه، ويقهر دواعي الشهوة لديه، ويتدرب على عبادة غض البصر؛ لأن النظرة سهم من سهام إبليس - كما ورد في الحديث - وإذا تعددت سهامه وتتابعت - خاصة في شهر رمضان - فإنها تفسد صيام المرء لا محالة، وتأتي عليه من القواعد، وتجعله يخرج من الموسم ببضاعة مزجاة لا تؤهله للمنافسة والتتويج.
5ـ رفقاء السوء:
وهو لص آخر من لصوص الصيام، والذي قد يتخذ معنى آخر أكثر دقة وشمولا في شهر رمضان - كموسم من مواسم التزود - من المعنى المتعارف عليه لرفيق السوء، فيكون كل من صرفك عن طاعة، أو ألهاك عن قربة، أو شغلك عن عمل صالح، أو ضيع لك جزءا من وقتك - رغم نفاسته - دون أن تكسب فيه ثوابا، أو تزداد فيه ربحا، أو تنمي فيه رصيدك، ودون أن يشجعك على زيادة التشمير على سواعد الجد، ويحفزك على المسارعة إلى الخيرات، وينافسك على الإقبال على الله - عز وجل - فهو في القاموس الرمضاني من رفقاء السوء، ولص من لصوص الصيام، وإن لم يدعك إلى معصية، ولم يورطك في منكر، فيكفي أنه عطلك وألهاك، فحرمك وغبنك وضيع عليك موسمك.
6 - الأسواق:
ومن لصوص الصيام كذلك كثرة التردد على الأسواق، واللهفة والسعار الذي يصيب البعض للتبضع، فبالإضافة إلى ما فيه من تضييع لأوقات ثمينة كان الأولى اغتنامها في كسب مزيد من الحسنات، وصرفها في مضاعفة الطاعات، فإنه تمكين لعدد من لصوص الصيام الأخرى من لسان منفلت، وقلب ملوث، وعين زائغة وغيرها؛ كي يجتمعوا على سرقة صيامه، والفتك برصيده فيه، فإذا كانت الأسواق هي شر بقاع الأرض - كما ورد في الحديث - فإن ارتيادها لغير الضرورة - خاصة في شهر رمضان - مدعاة لتعريض صيام المرء إلى ما يفسده ويهتك حرمته ويذهب ثوابه.
7 - الأكل الكثير:
حيث إن المبالغة في الأكل وملء البطن بدون ضابط، وكثرة اللهف على أنواع الطعام، لص آخر من لصوص الصيام، فالبطنة تذهب الفطنة، وإذا ذهبت الفطنة حلت الغفلة، وتمكن الكسل والتثاقل من صاحب المعدة الممتلئة؛ مما يحول بينه وبين الجد والاجتهاد، ويكبله عن الإقبال النشط على الطاعات، الأمر الذي يحرمه من نفحات الصيام وخيراته، ويحجبه عن أنواره وقرباته، ويجعل همته الإيمانية والروحية والعبادية في الحضيض.
8 - النوم الكثير:
ويكون لص الصيام هذا في الغالب من آثار اللص الذي سبقه؛ فمن أكل كثيرا نام كثيرا فخسر كثيرا، وكلما بالغ العبد الصائم في النوم، ضيع أوقاتا ثمينة لا تعوض في موسم جعله الله للمنافسة والتشمير، والمسارعة وجني المحاصيل، فتجد أهل اليقظة والتوفيق في سباق مع الزمن في اقتناص غنائم الشهر وجوائزه، في حين تجد الكسالى والغافلين يغطون في نوم عميق في أغلب ساعات اليوم، فلا يكون لهم نصيب من هذه الغنائم والجوائز؛ بحيث يحرمهم نومهم من بركات يومهم.
9 - السهر الفارغ:
من لصوص الصيام كذلك السهر الفارغ في ليالي رمضان، والذي لا طائل من ورائه إلا تضييع الوقت في غير فائدة، وتفويت فرص الخير في لواهي وصوارف لا يجني منها صاحبها إلا الخسارة والحرمان من فضائل الشهر ولياليه من ناحية، ومن ناحية أخرى إرهاق نفسه، وإتعاب جسده، وصرف جهده وطاقته فيما يفسد عليه أجواء الصيام الروحية، ويحرمه من عطاياه الإيمانية، ويثقل روحه على المبادرة إلى الخيرات، والمسارعة إلى الطاعات، في موسم لا يخسر فيه إلا محروم، ولا يرسب في مدرسته إلا مغبون؛ حيث هناك من يجمع بين هذا اللص واللص الذي سبقه (النوم الكثير والسهر الفارغ)، فيوقظه أهله وقت الإفطار؛ إذ يقضي نهاره كله وهو نائم، ويوقظ أهله للسحور؛ إذ يقضي ليله كله وهو سهران، فكيف يعتقد شخص هذا برنامجه طيلة رمضان أنه صائم حقا، وأبوابه مشرعة على مصراعيها للصوص الصيام تفعل فيه وبه ما تريد؟!
10- التلفاز وما تبعه:
ومن لصوص الصيام الخطرين في شهر رمضان كذلك: التلفاز ومسلسلاته وبرامجه، وكثرة التسمر حوله ليلا ونهارا، فهو يضيع الوقت، ويلهي عن العبادة، ويأكل الحسنات، وينهب الرصيد، ويوقع في مفسدات الصيام المختلفة، ويلوث الأجواء، ويمرض القلب، ويورط الجوارح، فتجد من الصائمين والصائمات من لا يترك مسلسلا من المسلسلات التي سموها زورا رمضانية إلا ويتابعه، ولا برنامجا ترفيهيا - زعموا - إلا ويشاهده؛ بحيث يمسك بالريموت كنترول طيلة يومه يتنقل من قناة إلى قناة، ومن مسلسل إلى مسلسل، ومن برنامج إلى برنامج، فكيف يترك من كان هذا فعله في رمضان كله وقتا للعبادة والطاعة والأعمال الصالحة في شهر هو موسمها بامتياز؟!
فما أكثر من يسرق منهم هذا الجهاز العجيب صيامهم، ويفني لهم رصيدهم - إن كانوا قد كونوا رصيدا أصلا - وهم يضحكون ويلهون ويتمتعون، ويحسبون أنهم صائمون.
ويمكن أن يتبع التلفاز ويشاركه هذه المهمة غير الشريفة المبالغة في استعمال مواقع التواصل الاجتماعي المتنوعة في غير فائدة تذكر، وكذلك كثرة اللغو في الهاتف المحمول.
فهؤلاء عشرة من لصوص الصيام، لو تسلطوا على المرء كلهم أو بعضهم وتمادى معهم، وتورط في مصاحبتهم في شهر رمضان، لأفسدوا عليه صيامه، ولفتكوا برصيده، وخربوا مخزونه، وأفرغوا جراب حسناته، وحرموه نفحات الشهر وبركاته، وأخرجوه في آخره مفلسا مغبونا، في وقت أتمه آخرون بجد وتشمير، ويقظة وتدبير، وأقاموا حدود الحزم والحذر والترك والهجر على هؤلاء اللصوص، فحفظوا منهم صيامهم، وأنقذوا موسمهم، وحموا رصيدهم، ففازوا وسعدوا، وخرجوا في نهاية السباق متوجين؛ كما
قال الحسن البصري: "جعل الله شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون"..