- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم
التوكل على الله هو الاعتماد عليه، وتفويض الأمور إليه، قال ابن عباس: "التوكل هو الثقة بالله، وصدق التوكل أن تثق في الله وفيما عند الله، فإنه أعظم وأبقى مما لديك في دنياك". وقال أحمد بن حنبل: "وجملة التوكل تفويض الأمر إلى الله جل ثناؤه والثقة به". وقال ابن رجب: "هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها".. وقد أمر الله تعالى المؤمنين بالتوكل عليه سبحانه فقال:{وعلى الله فليتوكل المؤمنون}(المائدة: 11)، وأمر به نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {فتوكل على الله إنك على الحق المبين}(النمل:79)، قال ابن كثير: "أي: في أمورك، وبلغ رسالة ربك، {إنك على الحق المبين} أي: أنت على الحق المبين وإن خالفك من خالفك". وقال السعدي: "أي: اعتمد على ربك في جلب المصالح ودفع المضار، وفي تبليغ الرسالة، وإقامة الدين، وجهاد الأعداء".
والسيرة النبوية فيها الكثير من المواقف الدالة على حسن توكل النبي صلى الله عليه وسلم على ربه سبحانه، وثقته ويقينه به، ومن هذه المواقف:
1 ـ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قبل نجد، فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - في واد كثير العضاه (شجر فيه شوك)، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق سيفه بغصن من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلون بالشجر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن رجلا أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف، فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتا في يده، فقال لي: من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله، فشام السيف (رده في غمده) فها هو ذا جالس، ثم لم يعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبه وجلس) رواه البخاري.
لما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من نومه ووجد السيف مسلطا عليه، والأعرابي يقول له: (ما يمنعك مني؟)، أي: من يحميك مني؟ أو من يحول بيني وبين قتلك؟ لم يزد النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: (الله)، وهذا يدل على شجاعته وعظيم تعلق قلبه صلى الله عليه وسلم بربه، وحسن توكله عليه، وقد قال الله تعالى له: {والله يعصمك من الناس}(المائدة: 67). قال الماوردي: "فمن معجزاته صلى الله عليه وسلم: عصمته من أعدائه، وهم الجم الغفير، والعدد الكثير، وهم على أتم حنق عليه، وأشد طلب لنفيه، وهو بينهم مسترسل قاهر، ولهم مخالط ومكاثر، ترمقه أبصارهم شزرا، وترتد عنه أيديهم ذعرا، وقد هاجر عنه أصحابه حذرا حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة، ثم خرج عنهم سليما، لم يكلم في نفس ولا جسد، وما كان ذاك إلا بعصمة إلهية وعده الله تعالى بها فحققها، حيث قال سبحانه: {والله يعصمك من الناس}(المائدة: 67)، فعصمه منهم".
2 ـ لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، انطلق المشركون في آثاره هو وصاحبه، يفتشون في طرق وجبال مكة يبحثون عنهما ليقتلوهما، حتى وصلوا غار ثور والنبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه بداخله، حتى أنهما سمعا أقدام المشركين وكلامهم، فعن أنس عن أبي بكر رضي الله عنه قال: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأنا في الغار: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا!، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما) رواه البخاري.
قال النووي: "معناه ثالثهما بالنصر والمعونة والحفظ والتسديد، وهو داخل في قوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}(النحل: 128)". وقال ابن عثيمين: " فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى قدميه لأبصرنا، لأننا في الغار تحته، فقال: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، وفي كتاب الله أنه قال: {لا تحزن إن الله معنا}(التوبة:40)، فيكون قال الأمرين كلاهما، أي: قال: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، وقال: {لا تحزن إن الله معنا}، فقوله: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما) يعني: هل أحد يقدر عليهما بأذية أو غير ذلك؟ والجواب: لا أحد يقدر، لأنه لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع، ولا مذل لمن أعز، ولا معز لمن أذل: {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير}(آل عمران: 26)، وفي هذه القصة: دليل على كمال توكل النبي صلى الله عليه وسلم على ربه، وأنه معتمد عليه، ومفوض إليه أمره، وهذا هو الشاهد من وضع هذا الحديث في باب اليقين والتوكل".
3 ـ أثناء الهجرة النبوية، وحين أدرك سراقة بن مالك ـ الذي كان يبحث عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه ـ للإمساك بهما أو القضاء عليهما لأخذ مكافأة من قريش، يصف أبو بكر رضي الله عنه ما حدث مع سراقة فيقول: (فارتحلنا (النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر) بعد ما مالت الشمس وأتبعنا سراقة بن مالك، فقلت: أتينا يا رسول الله، فقال: لا تحزن إن الله معنا، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فارتطمت به فرسه إلى بطنها، فقال: إني أراكما قد دعوتما علي، فادعوا لي، فالله لكما أن أرد عنكما الطلب، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فنجا، فجعل لا يلقى أحدا إلا قال: كفيتكم ما هنا، فلا يلقى أحدا إلا رده، قال: ووفى لنا) رواه البخاري. والشاهد قول النبي صلى الله عليه لأبي بكر لما خاف من اقتراب سراقة منهما: (لا تحزن إن الله معنا).
المتوكل:
من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم: "المتوكل"، فعن عبد الله بن عمر قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة؟ قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا}(الأحزاب: 45)، وحرزا (حصنا) للأميين (العرب)، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل ليس بفظ (بسيئ الخلق) ولا غليظ (قاسي القلب)، ولا سخاب (صياح) في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء (ملة الكفر)، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عميا، وآذانا صما، وقلوبا غلفا) رواه البخاري.
قال ابن بطال في "شرح صحيح البخاري": "قال المهلب: وقوله: (سميتك المتوكل) لقناعته باليسير من الرزق، واعتماده على الله تعالى بالتوكل عليه في الرزق والنصر، والصبر على انتظار الفرج، والأخذ بمحاسن الأخلاق". وقال ابن حجر: "أي: (المتوكل) على الله لقناعته باليسير، والصبر على ما كان يكره".
لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا (تذهب جياعا) وتروح بطانا (ترجع بطونها ملئت بالطعام)) رواه الترمذي وصححه الألباني. أي: لو حققتم معنى التوكل على الله عز وجل واعتمدتم عليه بصدق، وأخذتم بما تيسر لكم من أسباب، وعلمتم أن الله عز وجل بيده العطاء والمنع، وأن قوتكم ليست هي الجالبة الرزق لكم، لرزقكم الله كما يرزق الطير، عندما تذهب جياعا في أول نهارها، وتأتي في آخر النهار إلى بياتها وقد ملئت بطونها بالطعام، وهذا نوع من أنواع الأسباب في السعي لطلب الرزق دون التواكل والتكاسل، والجلوس والزهد الكاذب في الدنيا، لكن ينبغي على العبد الأخذ بأسباب الرزق مع التوكل على الله، وعدم الانشغال بالدنيا عن الآخرة.
قال ابن رجب في كتاب "جامع العلوم والحكم": "هذا الحديث أصل في التوكل"، وقال ابن عثيمين: "قول النبي عليه الصلاة والسلام حاثا أمته علي التوكل: (لو أنكم تتوكلون علي الله حق توكله) أي: توكلا حقيقيا، تعتمدون علي الله عز وجل اعتمادا تاما في طلب رزقكم وفي غيره (لرزقكم كما يرزق الطير)".
المتأمل لحياة وسيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يدرك عظم توكله صلى الله عليه وسلم على ربه سبحانه، وهذا التوكل لا ينافي أو يتعارض مع أخذه بالأسباب، لأن التوكل عمل القلب والأسباب عمل البدن، ومع كونه صلوات الله وسلامه عليه أعظم المتوكلين، فقد كان يأخذ بالأسباب، فكان يتزود في أسفاره، ويعد السلاح في حروبه، وقد لبس يوم أحد درعين مع كونه من التوكل بمحل لم يبلغه أحد من خلق الله تعالى، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (اعقلها وتوكل) رواه الترمذي وحسنه الألباني. إلا أنه ينبغي أن يعلم أنه لا يتحتم أن يترتب على إعداد العدة والأخذ بالأسباب حصول النتيجة المرجوة دائما، وذلك لأن النتيجة تتعلق بأمر الله عز وجل ومشيئته وحكمته، قال السعدي: "{ومن يتوكل على الله} أي: في أمر دينه ودنياه، بأن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، ويثق به في تسهيل ذلك {فهو حسبه} أي: كافيه الأمر الذي توكل عليه به.. ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له، فلهذا قال تعالى: {إن الله بالغ أمره} أي: لا بد من نفوذ قضائه وقدره، ولكنه {قد جعل الله لكل شيء قدرا} أي: وقتا ومقدارا، لا يتعداه ولا يقصر عنه".