حاجة البشر إلى الأنبياء والرسل

0 916

إذا كانت البشرية قد بلغت ذروة التقدم المادي، فغاصت في أعماق البحار والمحيطات، وانطلقت بعيدا في أجواء الفضاء حتى هبطت على سطح القمر وأرسلت ما تستكشف به المريخ، وفجرت الذرة، وكشفت كثيرا من القوى الكونية الكامنة في هذا الوجود، فهل يمكنها أن تستغني بهذه العلوم والمخترعات عن هداية الله تعالى ورسالته؟.

إن الواقع المشاهد ليدل على أن كثيرا من الناس اليوم أشد جدالا للرسل، وأكثر رفضا لعلومهم، وأعظم إعراضا عنهم، فما أشبه حالهم بحال هؤلاء الذين ذمهم الله وعاقبهم: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين . فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون}(غافر:83-85).
واليوم ينتشر الكفر والإلحاد في الأرض، وينفخ شياطين الإنس في عقول البشر يدعونهم إلى التمرد على الله وعلى شريعته، ورفض تعاليم الرسل، بحجة أن في شريعة الله حجرا على عقولهم، وتوقيفا لركب الحياة، وتجميدا للحضارة والرقي، وردة إلى عصور التخلف والانحطاط. وقد أقامت أكثر الدول اليوم نظمها وقوانينها وتشريعاتها على رفض تعاليم الرسل، بل إن بعض الدول تضع الإلحاد مبدأ دستوريا.

فهل صحيح أن البشرية بلغت – اليوم – مبلغا يجعلها تستغني عن الرسل وتعاليم الرسل؟. وهل أصبحت البشرية اليوم قادرة على أن تقود نفسها بعيدا عن منهج الرسل؟.

يجيب الإمام ابن القيم على هذا السؤال مبينا مدى الحاجة إلى الرسل، فيقول:
(ومن هاهنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول، وما جاء به، وتصديقه فيما أخبر به، وطاعته فيما أمر، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا، ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا ينال رضا الله ألبتة إلا على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاؤوا به، فهم الميزان الراجح، الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأي ضرورة وحاجة فرضت فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير .
وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك، وصار كالحوت إذا فارق الماء، ووضع في المقلاة، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال، بل أعظم، ولكن لا يحس بهذا إلا قلب حي.

ما لجرح بميت إيلام

وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلقة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيجب على كل من نصح نفسه، وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين، ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه، والناس في هذا بين مستقل، ومستكثر، ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو فضل عظيم.

أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فيبين الحاجة إلى الرسل والرسالات، فيقول:
(الرسالة ضرورية للعباد، لا بد لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء، والرسالة روح العالم ونوره وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟ والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة، وكذلك العبد ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة، ويناله من حياتها وروحها فهو في ظلمة، وهو من الأموات، قال الله تعالى: {أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها}(الأنعام:122)، فهذا وصف المؤمن كان ميتا في ظلمة الجهل، فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نورا يمشي به في الناس، وأما الكافر فميت القلب في الظلمات).

هل يمكن أن يستغني العقل عن الوحي؟

نحن نقول ابتداء: إنه لا يجوز في مجال الحجاج والنزاع أن يبادر المسلم إلى إنكار قدرة العقل على إدراك الحسن والقبح؛ فإن الله تعالى قد فطر عباده على إدراك الفرق بين الحسن والقبيح، والتمييز بين النوعين، كما فطرهم على الفرق بين النافع والضار والملائم لهم والمنافر، وركب في حواسهم إدراك ذلك، والتمييز بين أنواعه.
ومن معتقدات أهل السنة أن الأدلة العقلية الصريحة توافق ما جاءت به الرسل، وأن صريح المعقول لا يناقض صحيح المنقول، وإنما يقع التناقض بين ما يدخل في السمع وليس منه، وما يدخل في العقل وليس منه.
يقول ابن تيمية رحمه الله: (ليس في المعقول الصريح ما يمكن أن يكون مقدما على ما جاءت به الرسل وذلك لأن الآيات والبراهين دالة على صدق الرسل وأنهم لا يقولون على الله إلا الحق وأنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله من الخبر والطلب لا يجوز أن يستقر في خبرهم عن الله شيء من الخطأ كما اتفق على ذلك جميع المقرين بالرسل من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم، فوجب أن جميع ما يخبر به الرسول عن الله صدق وحق لا يجوز أن يكون في ذلك شيء مناقض لدليل عقلي ولا سمعي...).

إن أهل السنة لا يقللون من شأن العقل؛ فهو مناط التكليف عندهم، ولكن يقولون: إن العقل لا يتقدم على الشرع - وإلا لاستغنى الخلق عن الرسل - ولكن يعمل داخل دائرته، ولهذا سموا أهل السنة لاستمساكهم واتباعهم وتسليمهم المطلق لهدي النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى : {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين}(القصص: 50).

ومما لا ينبغي أن ينازع فيه أمور، منها:
الأول: أن هناك أمورا هي مصلحة الإنسان لا يستطيع الإنسان إدراكها بمجرد عقله ، لأنها غير داخلة في مجال العقل ودائرته، " فمن أين للعقل معرفة الله – تعالى – بأسمائه وصفاته ..؟ ومن أين له معرفة تفاصيل شرعه ودينه الذي شرعه لعباده؟ ومن أين له معرفة تفاصيل ثوابه وعقابه، وما أعد لأوليائه، وما أعد لأعدائه، ومقادير الثواب والعقاب، وكيفيتهما، ودرجاتهما؟ ومن أين له معرفة الغيب الذي لم يظهر الله عليه أحدا من خلقه إلا من ارتضاه من رسله إلى غير ذلك مما جاءت به الرسل، وبلغته عن الله، وليس في العقل طريق إلى معرفته؟.

الثاني: أن الذي يدرك العقل حسنه أو قبحه يدركه على سبيل الإجمال، ولا يستطيع أن يدرك تفاصيل ما جاء به الشرع، وإن أدرك التفاصيل فهو إدراك لبعض الجزئيات وليس إدراكا كليا شاملا: فالعقل يدرك مثلا حسن العدل، وأما كون هذا الفعل المعين عدلا أو ظلما فهذا مما يعجز العقل عن إدراكه في كل فعل وعقد.

الثالث: أن العقول قد تحار في الفعل الواحد، فقد يكون الفعل مشتملا على مصلحة ومفسدة، ولا تعلم العقول مفسدته أرجح أو مصلحته، فيتوقف العقل في ذلك، فتأتي الشرائع بيان ذلك، وتأمر براجح المصلحة، وتنهى عن راجح المفسدة، وكذلك الفعل يكون مفسدة في الظاهر، وفي ضمنه مصلحة عظيمة لا يهتدي إليها العقل، فتجيء الشرائع ببيان ما في ضمنه من المصلحة، والمفسدة الراجحة. يقول ابن تيمية رحمه الله: (الأنبياء جاؤوا بما تعجز العقول عن معرفته...).
الرابع: ما يتوصل إليه العقل وإن كان صحيحا، فإنه ليس إلا فرضيات، قد تجرفها الآراء المتناقضة، والمذاهب الملحدة.

إن الذين يريدون أن يستغنوا عن الوحي بالعقل يظلمون العقل ظلما كبيرا، ويبددون طاقة العقل في غير مجالها، (إن للعقل اختصاصه وميدانه وطاقته، فإذا اشتغل خارج اختصاصه جانبه الصواب، وحالفه الشطط والتخبط، وإذا أجري في غير ميدانه كبا وتعثر، وإذا كلف فوق طاقته كان نصيبه العجز والكلال .
إن العالم المادي المحسوس أو عالم الطبيعة هو ميدان العقل الفسيح الذي يصول فيه ويجول، فيستخرج مكنوناته، ويربط بين أسبابه وعلله، ومقدماته ونتائجه، فيكشف ويخترع، ويتبحر في العلوم النافعة في مختلف ميادين الحياة، وتسير عجلة التقدم البشري إلى أمام .
أما إذا كلف النظر خارج اختصاصه أعني ما وراء الطبيعة فإنه يرجع بعد طول البحث والعناء بما لا يروي غليلا ولا يشفي عليلا، بل يرجع بسخافات وشطحات) (نظرات في النبوة).

هل يلغي الوحي العقل؟

يزعم كثير من الناس أن الوحي يلغي العقل ويطمس نوره، ويورثه البلادة والخمول، وهذا زعم كاذب، ليس له من الصحة نصيب، فالوحي الإلهي وجه العقول إلى النظر في الكون والتدبر فيه، وحث الإنسان على استعمار هذه الأرض، واستثمارها، ففي كثير من الآيات يقول الله تعالى للناس: {أفلا تعقلون} {أفلا تبصرون} {أفلا تتفكرون} {أفلا تذكرون}.
وفي مجال العلوم المنزلة من الله فإن وظيفة العقل أن ينظر فيها، ليستوثق من صحة نسبتها إلى الله تعالى، فإن تبين له صحة ذلك فعليه أن يستوعب وحي الله إليه، ويستخدم العقل الذي وهبه الله إياه في فهم وتدبر الوحي، ثم يجتهد في التطبيق والتنفيذ.
والوحي مع العقل كنور الشمس أو الضوء مع العين، فكما أن المبصر لا ينتفع بعينه إذا عاش في ظلمة، فإذا أشرقت الشمس، وانتشر ضوؤها انتفع بناظريه، فكذلك أصحاب العقول إذا أشرق الوحي على عقولهم وقلوبهم أبصرت واهتدت.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة