قبل أن نسقط من على ظهر الحوت

0 1001

في مارس من سنة 1344، أخذ الإسبان القشتاليون الجزيرة الخضراء في جنوب الأندلس من أيدي المرينيين سلاطين المغرب، فكتب السلطان أبو الحسن علي بن عثمان المريني رسالة إلى سلطان مصر المملوكي الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن الناصر بن قلاوون يخبره بما جرى، وكأنه يستمده ويستعين به..

فأجابه سلطان مصر بما يلي:
"... أما ما وصفتموه من أمر الجزيرة الخضراء وما لاقاه أهلها، ومني به من الكفار حزنها وسهلها، فإنه شق علينا سماعه ـ الذي أنكى أهل الإيمان، وعدد به ذنوب الزمان كل قلب بأنامل الخفقان... ولطالما فزتم بالظفر، ورزقتم النصر على عدوكم فجر ذيل الهزيمة وفر، ولكن الحروب سجال، ولكل زمان دولة ورجال. ولو أمكنت المساعدة لطارت بنا إليكم عقبان الجياد المسومة، وسالت على عدوكم أباطحهم بقسينا المعوجة وسهامنا المقومة، وكحلنا عيون النجوم بمراود الرماح، وجعلنا ليل العجاج ممزقا ببروق الصفاح، واتخذنا رؤوسهم لصوالج القوائم كرات، وفرجنا مضائق الحرب بتوالي الكرات، وعطفنا إليهم الأعنة، وخضنا جداول السيوف ودسنا شوك الأسنة، وفلقنا الصخرات بالصرخات، وأسلنا العبرات بالرعبات، ولكن أين الغاية من هذا المدى المتطاول، وأين الثريا من يد المتناول؟ فما لنا غير إمدادكم بجيوش الدعاء الذي نرفعه نحن ورعايانا، والتوجه الصادق الذي تعرفه ملائكة القبول في سجايانا. والسلام.

صحيح إن عماد الدين المملوكي هذا كان شابا لم يكد يبلغ الثامنة عشرة من عمره، ولم يكتب الجواب بيده، وإنما خطه كاتبه خليل الصفدي.. إلا أن سنه لم تكن ما يمنعه من نصرة المغاربة، بل انشغاله بقتال أخيه السلطان المخلوع شهاب الدين أحمد المعتصم في الكرك آنذاك، ولما كانت الكرك في الأردن أقرب إليه من الأندلس، وكان خوفه من أخيه أشد من خوفه من الإسبان القشتاليين، أرسل إلى سلطان المغرب بما سمعتم.

قبل هذه الرسالة بقرن كامل كانت قرطبة وإشبيلية ـ عاصمتا الأندلس ـ قد وقعتا في يد الإسبان، وشاعت في الأندلس في هذا الوقت أبيات منسوبة للشاعر أبي محمد الفزازي، وقيل إنها وجدت في رقعة في جيبه يوم موته، يقول:
الروم تضرب في البلاد وتغنم .. .. والجور يأخذ ما بقى والمغرم
والمـــال يـورد كـلـه قـشتـالــة .. .. والجــند تسـقط والرعيـة تسلم
وذووا التعيـن ليس فيهم مسلم .. .. إلا معـــين في الفســاد مســلـم
أســفي على تلك البلاد وأهلها .. .. الله يلــطف بالجمــيع ويرحــم

وقيل إن هذه الأبيات رفعت إلى سلطان بلده فقال ـ بعد أن وقع عليها وقرأها ـ صدق رحمه الله تعالى، ولو كان حيا لضربت عنقه.

ما لنا والأندلس؟
أسمعك يا صديقي تقول: أي أندلس ونحن فيما نحن فيه؟

ولكن تمهل قليلا ودقق فيما جرى؛ ستجد شبها بيننا وبين أهلنا القدامى أكبر مما تظن، وترى دروسا لا يضر تكرارها..
ولا تكن كمراهق عشق فظن أنه أول من يعشق ويعجز عن تخيل جده وجدته هائمين في الغرام كأنما لم يكونا قط شبابا مثله.

فانظر يا صديقي إلى هؤلاء القدامى، وقارن بين إبادات اليوم وإبادات الأمس، وتهجير اليوم وتهجير الأمس، وخذلان اليوم وخذلان الأمس.

ضع اللاجئين والمقاتلين والحكام والمحكومين والشعراء والمجانين بين مرآتين متقابلتين كاللتين تراهما في غرفة قياس الملابس، سترى صفا من الوجوه لا نهائي التكرار عن يمينك وتوأمه عن شمالك، أمعن وسترى أحد الصفين واقفا في العمائم والبرانس بملابس انقضى عهدها منذ 500 سنة، يقابل صفا بالملامح ذاتها في زيك وزي ناسك..
ثم اسحب عدسة الكاميرا بعيدا لترى الصورة الأكبر.
صف العمائم والعباءات في سفينة تغرق، كلهم في أندلس تغيب إلى غير رجعة، وتتلاشى تلاشيا من تحت أقدامهم، وأنت تشعر باضطراب الأرض من تحتك، ولا تدري إن كنت أنت أيضا على سفينة تغرق مثلهم.

البحارة وظهر الحوت
أتذكر قصة البحار الذي نزل مع بعض زملائه على ظهر ما ظنوا أنه جزيرة فإذا هي ظهر حوت غاص بالبحارة فغرقوا جميعا؟

الحوت وصفته في كتب التاريخ، تأمل ملامح ظهره لتعرف مواضع قدميك ومكانك من زمانك هذا، فمن لم ير الحوت من قبل سيظنه جزيرة.. ويغرق.

لم تسقط الأندلس في يوم واحد، بل بقيت تسقط أربعة قرون كاملة..

نحن الآن نعلم أنها كانت تسقط طيلة تلك القرون، ولكن أهلها لم يكونوا يعلمون أنها ستضيع وللأبد.

فهل سينظر إلينا أحفادنا بعد أربعة قرون بملل وشفقة لأن بلادنا تضيع منذ أربعة قرون ونحن لا ندري؟
تميد بنا الأرض ولا نراها تميد، كما كانت تميد بهم ويظنونها ثابتة.

ألا ترى في خذلان السلطان المملوكي لأخيه المغربي ـ مغلفا باللغة الفخمة ـ شبها من خذلان حكامك اليوم.. وإن كانت لغتهم أشد رثاثة وركاكة؟

ولأربعة قرون كاملة ظل أصحاب البصيرة من الشعراء والكتاب وعامة الناس يصرخون بالأمراء والسلاطين: "هذا حوت لا جزيرة، الأرض تميد بنا، لا وقت لقتالكم على الملك، لن يبقى شيء تتقاتلون عليه".
لكن السلاطين ظلوا على ما هم عليه، يستعين أحدهم بالعدو على أخيه، ويأكلون من العشب الذي على ظهر الحوت، ويتقاتلون عليه مطمئنين إليه كأنه جزيرة.

وفي اللحظات القليلة التي توقف فيها الأمراء عن ذلك العبث توقف السقوط، وجرت معارك كـ "الزلاقة" و"الكرك" أطالت عمر الأندلس دهرا قبل أن يعود الأمراء والملوك مجددا إلى سيرتهم في تقصيرهم.

لاجئون من طليطلة، ثم قرطبة، ثم إشبيلية، ثم بلنسية، ثم غرناطة.. ثم ضاعت البلاد إلى يوم الناس هذا.

لاجئون من القدس، ثم من لبنان، ثم من العراق، ثم من الشام، ثم من اليمن.. ثم ماذا أيها الناس؟
هو ظهر حوت اليوم أيضا.

الثور والذاكرة
يقال: إن الثور الناجي من مصارعة الثيران الإسبانية لا يعود إلى الحلبة مرة أخرى، لا من باب مكافأته على نجاته، لكن لأن الثور ذو ذاكرة قوية نسبيا، ولأنه سريع التعلم.. ومن شروط الثيران التي ترسل إلى حلبة المصارعة أن تكون بلا ذاكرة، وأن ترى ما ترى للمرة الأولى؛ فلا تعرف كيف تواجهه؛ فيسهل استدراجها وإرباكها.. ثم قتلها لمتعة المشاهدين..

فالذاكرة درع وطوق نجاة..
الذاكرة درع.. فتذكر.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة