الاحتساب تجارة المخلصين

0 848

مما لا شك فيه أن ما عند الله خير وأبقى: {وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} [الشورى:36].
فما قدمه العبد لنفسه من الصالحات يجده عند الله تعالى كاملا مضاعفا: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا} [المزمل:20].
من هنا تأتي أهمية الاحتساب..
فماذا نقصد بالاحتساب؟

إن للاحتساب أنواعا أو معاني، منها:
احتساب الأجر من الله تعالى عند عمل الطاعات التي يبتغى بها وجهه الكريم سبحانه:
وإذا استحضر العبد هذا المعنى العظيم في نفسه عند قيامه بالطاعات فإنه سيدفع عن نفسه خواطر السوء من السمعة والرياء وطلبة المدح والثناء من الناس إلى غير ذلك من الآفات التي تحبط العمل أو تنقص الأجر؛ لأنه حصر همه في رضا الله وطلب الأجر منه. وعندئذ يفوز بالأجر العظيم والثواب الجزيل، كما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".

وقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اتبع جنازة مسلم إيمانا واحتسابا، وكان معه حتى يصلى عليها، ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد".
بل إن العبد المسلم يؤجر على نفقته على أهله وهي واجبة عليه كأجر الصدقة إن هو احتسبها كما ورد في الحديث: "إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة".

وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله، والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قتلت في سبيل الله، تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف قلت؟" قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك".
فانظر كيف عظم الأجر بسبب الاحتساب في الطاعات؟!.

ومما يدل على هذا المعنى العظيم أيضا ما ورد عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: كان رجل من الأنصار بيته أقصى بيت في المدينة، فكان لا تخطئه الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فتوجعنا له. فقلت: يا فلان لو أنك اشتريت حمارا يقيك من الرمضاء، ويقيك من هوام الأرض. قال: أما والله ما أحب أن بيتي مطنب ببيت محمد صلى الله عليه وسلم، فثقل هذا الجواب على أبي بن كعب واستعظمه لبشاعة لفظه، فأتى نبي الله فأخبره، فدعاه فقال له مثل ذلك، وذكر له انه يرجو في أثره (أي ممشاه) الأجر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لك ما احتسبت".

ومن معاني الاحتساب: طلب الأجر من الله عند الصبر على البلايا والمكاره:
وقد مدح الله هذا الصنف من المؤمنين ووعدهم بالرحمة والهداية والأجر الكبير: {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة:156، 157].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيرها: (أي تسلوا بقولهم هذا عما أصابهم وعلموا أنهم ملك لله يتصرف في عبيده كيف يشاء. وعلموا أنه لا يضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة، فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده وأنهم إليه راجعون في الدنيا والآخرة).
إن الناس في هذه الحياة يتعرضون لأنواع من البلايا والأمور التي تكرهها نفوسهم لا فرق في ذلك بين مؤمن وكافر، إلا من جهة احتساب الأجر بالنسبة للمؤمنين.
فالمسلم يمرض وكذا الكافر، ويموت أحباؤه وأقرباؤه، وكذا الكافر؛ لكن ثمة فرقا مهما بينهما؛ ألا وهو ما يرجوه المؤمن من الأجر إن هو صبر واحتسب ورضي، قال الله تعالى: {ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون} [النساء:104].

إن المؤمن يعيش في هذه الدنيا بين نعمة يجتهد في القيام بشكرها وبين بلية يصبر عليها وهو مأجور في الحالين، كما روى مسلم عن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له".
وانظر إلى جزاء المحتسبين في المصائب والشدائد، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يرضى لعبده المؤمن إذا ذهب بصفيه من أهل الأرض فصبر واحتسب، وقال ما أمر به بثواب دون الجنة".

واستمع إلى أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وهي تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم اؤجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها، إلا أخلف الله له خيرا منها". قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتها فأخلف الله لي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا المعنى أيضا ما رواه الترمذي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات ولد العبد قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما من مسلم له ولدان مسلمان يصبح إليهما محتسبا إلا فتح الله له بابين، يعني من الجنة، وإن كان واحد فواحد.

وقد كان السلف يراجعون أنفسهم ويستحضرون النوايا الصالحة ويتواصون بالاحتساب طلبا للأجر والثواب.
هذا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أيها الناس! احتسبوا أعمالكم؛ فإن من احتسب عمله كتب له أجر عمله وأجر حسبته.

كما استهان خبيب بن عدي رضي الله عنه بالموت عندما أراد بنو الحارث بن عامر أن يقتلوه، واحتسب ذلك عند الله تعالى فقال:
ولست أبالي حين أقتل مسلما.. ... ..على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ.. ... ..يبارك على أوصال شلو ممزع

فاحتسب أيها الحبيب في طاعاتك وعباداتك، واحتسب في البلايا والشدائد، يثبت الله قلبك ويعلي ذكرك ويضاعف أجرك. 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة