الطموح

0 1283

ينبغي على العاقل اللبيب ألا يقنع بما عليه حاله، بل ينزع إلى معالي الأمور ويعمل على تغيير حاله إلى ما هو أرقى وأسمى وأنفع، فكلما نال مرتبة نظر إلى ما فوقها في غير ركون إلى الدنيا أو مخالفة لشرع ربه.
وإذا كان الأمر كذلك فإنه لن تكون له غاية دون الجنة، وهذا هو الطموح: أن تتطلع النفس إلى ما هو أكمل وأحسن وأسمى.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل الأمة دائما على تطلب المعالي والتنزه عن الدنايا، فها هو يقول: " إن الله -تعالى - يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها ".
وكان يحث أمته على أعلى درجات الطموح حين قال: "الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلى الجنة، وأوسطها، وفوقه عرش الرحمن، ومنها يتفجر أنهار الجنة، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس".

الفرق بين الطموح وعلو الهمة
مما لا شك فيه أن الطموح وعلو الهمة يشتركان في الهدف وهو تطلب معالي الأمور، غير أنهما يختلفان في الباعث والوسيلة، فإن الباعث في علو الهمة قد يكون الأنفة من خمول الضعة، أو دفع مهانة النقص، أما الباعث على الطموح فهو نزوع النفس دائما نحو الأعلى، وأما من حيث الوسيلة فإن علو الهمة لا يسلك بصاحبه إلا الدروب الشريفة الموافقة لشرع رب العالمين، بينما نجد أن الطموح قد يجنح بصاحبه إلى الغلو والإسراف.
والذي لا شك فيه أيضا أن صاحب الطموح إن لم يبذل جهده للوصول إلى غايته، فهي مجرد أماني، لكن الطموح حقا هو الذي يسعى لنيل ما يريد، بل ويتعب نفسه في هذا:
وإذا كانت النفوس كبارا      تعبت في مرادها الأجسام
وما أحسن ما قال بعضهم:
لا يدرك المجد من لا يركب الخطرا     ولا يـنال العـلا مــن قـدم الحـذرا
ومـن أراد العــلا صـفــوا بــلا كــدر     قضى ولم يقض من إدراكه وطرا

إن معالي الأمور وعرة المسالك محفوفة بالمكاره؛ ولهذا قال معاوية -رضي الله عنه- لعمرو بن العاص -رضي الله عنه-: " من طلب عظيما خاطر بعظيمته ".
وكان عمرو بن العاص يقول: " عليكم بكل أمر مزلقة مهلكة ". يعني عليكم بجسام الأمور وعظيمها.

هل للطموح حدود؟
يجيب الأستاذ عبد الله العثمان على هذا السؤال فيقول في كتابه "نجوم السماء" باختصار:
(اطمح لأبعد الحدود وبكل شيء جميل ونافع، وشمر عن سواعد الجد والمثابرة، وضع لك أهدافا حالمة، وأطلق عنان خيول الطموح تعانق السماء، وأزل عنها القيود والأغلال، وابدأ الخطوة الأولى ولا تؤجلها فمسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة، ولكن لا بد أن تعرف القيمة المضافة إليك وراء كل حلم تحلم به أو شيء تطمح إليه، واختر من الطموحات والأحلام ما يقربك من الله تعالى، وثق بأن كل ما تحلم به سيتحقق في يوم من الأيام).

يقول الأستاذ علي الجارم:
لا ترسموا للطموح حدا      فالمجد لا يعرف الحدودا
ويقول سومرست موم: لعله من عجائب الحياة أنك إذا رفضت كل ما هو دون مستوى القمة فإنك دائما تصل إليها.

إياك واليأس:
إن الطموح الذي يسعى لنيل ما يصبو إليه لا يعرف اليأس ولا العجز، وكلما كبا نهض سريعا فهو لا يعرف للفشل معنى إلا الانقطاع.
وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا هذا المعنى فيقول: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان".

لابد من عمل كبير مع التحلي بالصبر للوصول إلى ما تطمح إليه، واعلم أن قطرة الماء تثقب الحجر لا بالعنف لكن بتواصل السقوط، فاعمل وثابر وجد واجتهد واصبر:
لا تحسب المجد تمرا أنت آكله       لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
يقول ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر في صورة معبرة عن حوار بين الماء والزيت إذ قال الماء للزيت منكرا: (لم ترتفع علي وقد أنبت شجرتك؟ أين الأدب؟ فقال الزيت: لأني صبرت على ألم العصر والطحن، بينما أنت تجري في رضراض من الأنهار على طلب السلامة، وبالصبر يرتفع القدر).

لقد نجح وارنر في صنع القذائف ذاتية الدفع بعد قرابة 70000 تجربة خاطئة لكنه في النهاية وصل لأنه لم ييأس ولم يستسلم.
يقول هنري وادسورث: (العظماء لم يبلغوا القمم ويحافظوا عليها بمحض صدفة مفاجئة، ولكنهم كانوا يكدحون الليل ليصلوا إلى العلا بينما كان رفاقهم يغطون في نوم عميق).
كان الإمام البخاري يستيقظ في الليل قرابة العشرين مرة يوقد السراج ويكتب الفائدة تمر بخاطره، وهو الذي رحل في طلب العلم ومنعته عفة نفسه أن يسأل الناس شيئا حين نفدت نفقته فأكل من حشيش الأرض.

يقول الدكتور عبد الرحمن السميط الذي تعرفه دروب وغابات وأيتام وفقراء إفريقيا: (لا نجاح أبدا بدون فشل، النملة لا تستطيع تسلق الحائط بدون أن تسقط أكثر من مرة، والطريق إلى النجاح يمر دائما بمحطات من الفشل، ولا خير فيمن يستسلم في المعركة الأولى).

طموح الشرفاء والأكابر
إن الكبار دائما يتطلعون إلى المعالي ويتنزهون عن السفاسف والدنايا؛ لذا تجدهم طامحين إلى:
1-الاستزادة من العلم:
لما علموا أن العلم أرفع المقامات التي تتطلع إليها الهمم، وأشرف الغايات التي تتسابق إليها الأمم بذلوا فيه أوقاتهم وأموالهم، ولم يضيعوا بما وصلوا إليه، وقد تحملوا في سبيل ذلك الشدائد والصعاب من شظف العيش وخشونته، والغربة عن الأوطان والأهل ومجافاة النوم واللهو، حتى كان الواحد منهم يرحل من بلده إلى بلد آخر طلبا لحديث واحد، بعزم لا يبلى، وحرص على الاستفادة من كل لحظة.
2- الشهادة:
لما علم أصحاب الهمم العالية بما أعده الله تعالى لمن يموت في سبيله شهيدا تسابقوا إليها، ولم يؤثروا غيرهم بها، فقد أخرج الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه قال يوم أحد لأخيه: " خذ درعي يا أخي، فقال: أريد من الشهادة مثل الذي تريد فتركاها جميعا " .
وهذا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يعقر فرسه ويقاتل القوم وهو يقول:
يا حـبذا الجـنة واقترابـها      طـيبة وبارد شـرابها
والروم روم قد دنا عذابها    كـافـرة بعـيدة أنسابها
               علي إذ لاقيتها ضرابها
حتى قتل في سبيل الله رضي الله عنه.
3-الطموح إلى الجنة:
فقد قيل للعتابي: فلان بعيد الهمة، قال: إذن لا يكون له غاية دون الجنة.
فكل غاية دون الجنة فهي بالنسبة إليها حقيرة.
ولا يمنع ذلك من طموح إلى الترقي في أمور الدنيا مع الالتزام بشرع الله والوقوف عند حدوده واستصحاب النية الصالحة في ذلك كله.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة