الامتنان الإلهي

0 560

منة الله على عباده عظيمة، ولا حدود لرحماته، ولا تصور لألطافه، يجود في الشدائد، ويرحم في المحن، ..ويفرج في الكروبات ..(ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) [القصص: ٥] .
• امتنان يأخذك إلى كوكب المعجزات العجيبة، فيريك كيف يبدل الله الضعف قوة، ويجعل المسكين مكينا، والفقير قائدا، والمقهور عظيما رائدا.
• بغي بهم، واعتدي على حقوقهم، ونكل بهم، وعلقوا في جذوع النخل، وخدت لهم الأخاديد، فجاءهم الفرج، وانطلقت الفتوحات، وتمت البشائر، وزلزل البطلان الجاثم.
وكان ذلك لبني إسرائيل زمن فرعون وعنت الظالمين، فصبروا واستنقذهم الله ببعثة موسى عليه السلام، وأورثهم مغانم القوم المجرمين! وهذه السنة لهم ولمن بعدهم من أهل الايمان والصبر (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) [يوسف: ٩٠] .
• والاستضعاف مس أبدانهم وأموالهم، ولم يمس إيمانهم وخلقهم، ولذلك صبروا على المرارة، وتجرعوا المخاطر، ولم يتزحزحوا عن استقامتهم وهذا طريق النصر والظهور البشري.
• ونتج عن الإيمان الصبور، والعقيدة الباسلة أن تساقطت الرؤوس، واضمحل الظلمة، وتدحرج الغواة، وباتوا أثرا بعد عين.
• وما ذلك الشقاء المبدئي إلا كمتاعب الحياة المتكررة، تمر وتعبر، وتفحص وتصقل، يقول ابن القيم -رحمه الله-: (إنما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه، وغلبته له، أذاه له في بعض الأحيان أمر لازم لا بد منه، وهو كالحر الشديد، والبرد الشديد، والأمراض والهموم والغموم، فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار) .اهـ . ولا ارتياب أن ذاك تدريب له وإعداد.

• امتنان فاق كل وصف، وخرج عن كل تقدير، وتجاوز كل تدبير، فيه انقطعت القلوب المؤمنة إلى خالقها، وتوكلت عليه حق التوكل، وفوضت أمرها، ولم تذل أو تجبن، أو تبدل أوتهن..(وما بدلوا تبديلا) [الأحزاب: ٢٣] .
• وامتنان يجعلك توقن أن الأمر كله لله، وما صنائع البشر إلا عبثية زينها الشيطان لهم، تسقط أمام صدق عزيز، وكلم جليل، أو موقف ثابت.
• وليعتقد الجميع أن تدبير الأمور بيد الله تعالى، وله مقاليد السموات والأرض، يحكم لا معقب لحكمه ، ولا راد لأمره، فهو مالك الملك، والحكم العدل، والقوي العزيز، إرادته نافذة، وقدرته بالغة،.. وهذه الإرادة لا يعيقها عائق، ولا يصدها صاد.
• وأن مدة الاستضعاف والبلاء لا تطول، ولن يخلد العدوان، أو تسود المظالم، بل لها أجل محدود، وزمن مرصود، وعلينا العمل والترقب، وعدم اليأس والتراجع (ولينصرن الله من ينصره) سورة الحج .
وهذه الآية من الآيات التفاؤلية والنصوص الإيمانية البهيجة، والتي تجدد الإيمان، وتصنع الراحة والسرور، وتزيد من أسارير اليقين، وفي أيام المحن والشدائد ينبغي العناية بآيات التفاؤل والانشراح، ومجددات الظهور والتمكين، لنحارب الإحباط، ونقضي على اليأس، ومقدمات الفشل المعترية لبعض الناس.. (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا....)

• ومن حكمة الله أن منن التمكين والنصر لا تأتي إلا عقيب بلاء وتمكن للباطل ، حتى تمحص النفوس، وتمتحن الأرواح، وتصفى المسيرة، فيحيا من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، ولذا ذكر قبلها تمكن فرعون وإسرافه في الفساد وبطشه ببني إسرائيل(إن فرعون علا في الارض وجعل أهلها شيعا...) سورة القصص . 
وقد " سئل الإمام الشافعي رحمه الله عن الأفضل للمؤمن: هل يمكن أو يبتلى؟ فقال: لا يمكن حتى يبتلى." وفي هذا دليل أن البلاء طريق الرفعة والتمكين، كما هو طريق الفرز والتبيين، وأشد الناس بلاء، الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل.
• قال الإمام النووي رحمه الله :" قال العلماء : والحكمة في كون الأنبياء أشد بلاء ثم الأمثل فالأمثل، أنهم مخصوصون بكمال الصبر، وصحة الاحتساب، ومعرفة أن ذلك نعمة من الله تعالى، ليتم لهم الخير ويضاعف لهم الأجر ويظهر صبرهم ورضاهم" .
فهذا الامتنان له مقدمات وشرائط : كالإيمان والصبر، والثبات والبذل، والصدق والعمل، والنزاهة والتباعد، والتقوى والدعوة، واليقين والتفاؤل، وكل ذلك قد حوته المدرسة النبوية، وعلمتنا الصبر في المحن، واليقين زمن الشدة، والتفاؤل ولو اسودت البيئة، والدأب ولو اشتد النفاق(فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله..) سورة آل عمران .

• وقد كان رسول الله وصحبه الأوائل من المستضعفين في الأرض، وفجأة حضرتهم المنة، وجاء الإحسان، وتحقق البرهان... (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون) [الأنفال: ٢٦] .
• وكم من أمم وأقوام، استضعفوا ونيل منهم، ونهبت حقوقهم، ثم أبدل الله خوفهم أمنا، وبلغهم سعادتهم، ومكنهم دينا ودعوة وصلاحا، بسبب ثباتهم واستعصامهم بدينهم ورفضهم التبديل (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) [النور: ٥٥] .

• وكم من عالم صبور، وعابد وقور، أتاه الامتنان بعد مراحل من الصبر والاحتساب، واحتساء النكبات، لعلمه بأن ذلك هو الطريق، وأنه مسار المصلحين عبر التاريخ، ولا انفكاك عنه، أو مناص عن سلوكه.
• وإذا آلمتك الحياة بقضها وقضيضها، ومرها وشرها، فعش مع مثل تلك النصوص، واستلهم منها العظة، واستطعم العبرة، واملأ قلبك باليقين، والتفاؤل، والعمل، وضم لها السيرة النبوية، وقصص الذين عانوا ولاقوا، ثم كانت لهم العافية والعاقبة، فانهل منها وتعلم، (والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة