- اسم الكاتب:إسلام ويب
- التصنيف:محاسن الأخلاق
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، وقال: "إن الله خير عبدا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله". قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خير، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا -غير ربي- لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته. لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر". (رواه البخاري ).
ولا شك أن هذا من فطنة الصديق رضي الله عنه؛ إذ الفطنة تعني العلم بالشيء من وجه غامض. أو التنـبه للشيء الذي يقصد معرفته.
من أمثلة الفطنة في القرآن الكريم
قال الله تعالى: {وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين . ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين . وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون . ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين}.(الأنبياء:78-81).
وقد ورد في تفسيرها عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كرم قد أنبتت عناقيده، فأفسدته. قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله! قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم، فيصيب منها، حتى إذا كان الكرم كما كان، دفعت الكرم إلى صاحبه، ودفعت الغنم إلى صاحبها، فذلك قوله: {ففهمناها سليمان}.(تفسير ابن كثير).
- قال الحسن رحمه الله: فحمد سليمان، ولم يلم داود، ولولا ما ذكر الله من أمر هذين، لرأيت أن القضاة هلكوا، فإنه أثنى على هذا بعلمه، وعذر هذا باجتهاده.
- عن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه شيئا، بقوله: فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها". (البخاري، ومسلم). قال المناوي: "ألحن -بفتح الحاء-: الفطانة، أي: أبلغ وأفصح وأعلم في تقرير مقصوده، وأفطن ببيان دليله، وأقدر على الـبرهنة على دفع دعوى خصمه، بحيث يظن أن الحق معه، فهو كاذب، ويحتمل كونه من اللحن، وهو الصرف عن الصواب، أي: يكون أعجز عن الإعراب بحجته من بعض".
نماذج في الفطنة
- قال ابن عباس: (لما شب إسماعيل، تزوج امرأة من جرهم، فجاء إبراهيم فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته، فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشهم، فقالت: نحن بشر، في ضيق وشدة، وشكت إليه. فقال: فإذا جاء زوجك فاقرئي -عليه السلام- وقولي له يغير عتبة بابه. فلما جاء فأخبرته، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك).
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب، فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت. وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما. فقالت الصغرى: لا، يرحمك الله هو ابنها. فقضى به للصغرى".(رواه مسلم).
قال ابن الجوزي: (أما داود عليه السلام فرأى استواءهما في اليد، فقدم الكبرى لأجل السن، وأما سليمان عليه السلام فرأى الأمر محتملا، فاستنبط، فأحسن، فكان أحد فطنة من داود، وكلاهما حكم بالاجتهاد، لأنه لو كان داود حكم بالنص، لم يسع سليمان أن يحكم بخلافه، ولو كان ما حكم به نصا، لم يخف على داود، وهذا الحديث يدل على أن الفطنة والفهم موهبة لا بمقدار السن ).
ومن فطنة النبي صلى الله عليه وسلم الفطرية ما كان في غزوة بدر وأخبر به علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما قدمنا المدينة، أصبنا من ثمارها فاجتويناها (أي كرهنا المقام بها)، وأصابنا بها وعك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخبر عن بدر، فلما بلغنا أن المشركين قد أقبلوا، سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر -وبدر بئر-، فسبقنا المشركون إليها، فوجدنا فيها رجلين منهم، رجلا من قريش، ومولى لعقبة بن أبي معيط، فأما القرشي: فانفلت، وأما مولى عقبة: فأخذناه، فجعلنا نقول له: كم القوم؟ فيقول: هم -والله- كثير عددهم، شديد بأسهم، فجعل المسلمون -إذ قال ذلك- ضربوه حتى انتهوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: "كم القوم؟" قال: هم -والله- كثير عددهم، شديد بأسهم. فجهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبره كم هم؟ فأبى، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: "كم ينحرون من الجزر؟" فقال: عشرا كل يوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القوم ألف، كل جزور لمائة وتبعها".
ومن أمثلة الفطنة ما كان من عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟" فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت. ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: فقال: "هي النخلة". قال: فذكرت ذلك لعمر. قال: لأن تكون قلت: هي النخلة، أحب إلي من كذا وكذا. (رواه مسلم).
من فوائد الفطنة
1- أنها تدل العبد على حكم الله وسننه الشرعية والكونية، فتبصره بها، كما أنها تدعوه إلى التفكر في آلاء الله، فيزداد خشوعا لله وتعظيما له، وإيمانا ويقينا به.
قال علي رضي الله عنه: (اليقين على أربع شعب: تبصرة الفطنة، وتأويل الحكمة، ومعرفة العبرة، وسنة الأولين، فمن تبصر الفطنة، تأول الحكمة، ومن تأول الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة فكأنما كان في الأولين).
2- الفطنة من أسباب السلامة والخروج من المآزق.
3- أنها تدعو إلى فعل صنائع المعروف، وتقديم الفضل إلى محتاجيه:
قال الأبشيهي: (يستدل على عقل الرجل بأمور متعددة منها: ميله إلى محاسن الأخلاق، وإعراضه عن رذائل الأعمال، ورغبته في إسداء صنائع المعروف، وتجنبه ما يكسبه عارا، ويورثه سوء السمعة).
ويقول الرازي: (العقل يدعو إلى الله تعالى، والهوى يدعو إلى الشيطان، ... فالفطنة توقفك على معايب الدنيا، والشهوة تحركك إلى لذات الدنيا، ثم إن الروح أمد الفطنة بالفكرة لتقوى الفطنة بالفكرة).
4- الفطن ينتفع بفطنته، وينتفع بها غيره، ويفيدون منها.
5- ومن فوائدها وفضائلها -في نفس الوقت-: أنها ميزت هذه الأمة عن سواها، قال ابن الجوزي: (اعلم أن فضيلة هذه الأمة على الأمم المتقدمة، وإن كان ذلك باختيار الحق لها وتقديمه إياها، إلا أنه جعل لذلك سببا، كما جعل سبب سجود الملائكة لآدم علمه بما جهلوا، فكذلك جعل لتقديم هذه الأمة سببا هو الفطنة والفهم واليقين وتسليم النفوس).
ولا يعني هذا أن هذه الأمة اختصت بالفطنة دون غيرها من الأمم، وإنما المقصود هو: أن الله حباهم من الفطنة ما يميزون به بين الحق والباطل، والخير والشر، والهداية والضلال.
7- هي مقوم من مقومات الشخصية الناجحة، فقد يتمتع الرجل بالقوة والأمانة، إلا أنه لا يتمتع بالفطنة، وفي هذه الحالة قد لا يستطيع أن يسير أعماله بالطريقة المطلوبة، قال الرازي: (القوة والأمانة لا يكفيان في حصول المقصود ما لم ينضم إليهما الفطنة والكياسة).
أقسام الفطنة
تنقسم الفطنة إلى قسمين:
1- فطنة موهوبة من الله -تبارك وتعالى-، يهبها الله من يشاء من عباده، فينير بصيرته، ويفهمه ما لا يفهم غيره، فتراه قوي الملاحظة، سريع الفهم، نافذ البصيرة، ذكي القلب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
2- فطنة مكتسبة تجريبية تتحصل للمرء باجتهاده، وكثرة تجاربه، ومعاشرته لأهل العلم والذكاء والفطنة والاستفادة منهم ومن تجاربهم، فيتولد عنده من الذكاء والفطنة ومعرفة الأمور ما لم يكن لديه. ولعلنا نستشهد بقول الإبشيهي عن العقل الغريزي والعقل المكتسب قال الإبشيهي: (العقل: ينقسم إلى قسمين: قسم لا يقبل الزيادة والنقصان، وقسم يقبلهما، فأما الأول: فهو العقل الغريزي المشترك بين العقلاء، وأما الثاني: فهو العقل التجريبي، وهو مكتسب، وتحصل زيادته بكثرة التجارب والوقائع، وباعتبار هذه الحالة، يقال: إن الشيخ أكمل عقلا، وأتم دراية، وإن صاحب التجارب، أكثر فهما وأرجح معرفة).
من الوسائل المعينة على اكتساب الفطنة
1- الإيمان:
الإيمان طريق عظيم من طرق اكتساب الفطنة، يقول الطاهر بن عاشور: (الإيمان يزيد الفطنة؛ لأن أصول اعتقاده مبنية على نبذ كل ما من شأنه تضليل الرأي، وطمس البصيرة).
ومن وسائل اكتسابها -أيضا-: التفقه في الدين، وطلب العلم الذي ينير البصيرة، ويعمل الفكر، وينمي الفطنة.
2- إعمال الفكر ومحاولة الفهم:
ومن الوسائل -أيضا-: محاولة التفكر في الأشياء وفهمها، وإعمال الفكرة فيها، فإن ذلك ينمي الفطنة. يقول ابن القيم: (الفكر هو الذي ينقل من موت الفطنة إلى حياة اليقظة).
3- ترك فضول الطعام والشراب والنوم:
فإن فضول هذه الأشياء تجعل الفكر راكدا خاملا، لا يكاد يتفطن للأشياء، إلا بصعوبة بالغة، ومشقة شديدة.
عن مكحول قال: (خصال ثلاث يحبها الله عز وجل وثلاث يبغضها الله عز وجل، فأما اللاتي يحبها: فقلة الأكل، وقلة النوم، وقلة الكلام، وأما اللاتي يبغض: فكثرة الأكل، وكثرة الكلام، وكثرة النوم، فأما النوم، فإن في مداومته طول الغفلة، وقلة العقل، ونقصان الفطنة، وسهوة القلب).
قال شمس الدين السفاريني: (والبطنة تذهب الفطنة، وتجلب أمراضا عسرة، ومقام العدل أن لا يأكل حتى تصد الشهوة، وأن يرفع يده، وهو يشتهي الطعام). وقال أبو حامد الغزالي: (الشبع يثقل البدن ويقسي القلب، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة).
و(الجوع إذا ساعدته القناعة، فهو من مزرعة الفكر، وينبوع الحكمة، وحياة الفطنة، ومصباح القلب).
4- محاسبة النفس:
ومن وسائل اكتساب هذه الصفة: محاسبة النفس، قال الحارث بن أسد: (المحاسبة تورث الزيادة في البصيرة، والكيس في الفطنة، والسرعة إلى إثبات الحجة، واتساع المعرفة).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(للاستزادة: نضرة النعيم)