- اسم الكاتب:محمد علي \"مدونات الجزيرة\"
- التصنيف:الإعلام
سأحاول في هذه السطور أن أكسر إحدى أكبر الخرافات المرتبطة بصناعة الإعلام التلفزيوني، إلى الذين يبحثون عن وسيلة أخبار "محايدة، "اشربوا عسلا مصفى وناموا بسلام"، لا يوجد إعلام محايد على الإطلاق.
لا أحب "الوثوقية" المفرطة، لكني هنا بما أقول زعيم "لا يوجد إعلام محايد" والسبب بسيط جدا "الاستثمار".
على حد علمي، لا توجد قناة عالمية ناجحة بتمويل ذاتي تماما، من البي البي سي "الأولى تاريخيا" إلى فرانس24 -الأحدث، نوعا ما-، مرورا بالقنوات الأمريكية "CNN" و "abc" و "NBC"، وشبكة"SKY" في بريطانيا، و"DW" في ألمانيا، والجزيرة في قطر، وغيرها.. كل تلك القنوات تستمد حياتها "المصرفية"، وبالتالي استمرار بثها من مستثمرين يضخون فيها عشرات ملايين الدولارات سنويا، ولا أحد صدقوني.. لا أحد مستعد لفعل ذلك من أجل سواد عيون المشاهد الباحث عن الحياد، رغم أنه -أي المشاهد- ربما لا يفهم أصلا معنى أن تكون محايدا، ويخلط كثيرا بين الحياد والموضوعية.
لا توجد شبكة إعلام "قناة تلفزيونية" تنقل الخبر دون تحرير، وذلك التحرير يشبه المصفاة، بعض المصافي ضيقة جدا، بحيث لا يمر منها إلا نزر يسير من الخبر الأصلي، وبعضها على العكس من ذلك، يمرر الخبر بقدر أكبر من الدقة والتناسق مع المصدر، وبينهما ومعهما تتشكل الضوابط الفنية والصحافية لكل شاشة، بما يتوافق مع نظامها وطريقة عملها والزاوية التي تنظر منها إلى حدث معين، وهنا يجب توضيح المفهومين المذكورين أعلاه.
الحياد، يعني إمساك العصا من الوسط تماما، وقد نختلف على تعريف الوسط، فنختلف على مشروعية الحياد، الحياد يعني أن لا تتخذ موقفا، أن لا تكون لك رؤية، أن ترفع يديك عن المسؤولية الأخلاقية، وتتنصل من إلزامية الاختيار في القضايا الإنسانية، الحياد يعني أن تكون آلة، بل حتى هذا التعريف فيه تجن على الآلة! وإذا اتفقنا بعض الشيء على التعاريف المذكورة أعلاه، يمكننا أن نتفق ولو قليلا، على أن كثيرا من الحياد يفسد القضايا ويجعلها ميكانيكية باهتة، لا روح فيها، كأنما لا تحدث لبشر من دم ولحم، وهذا يعيدني إلى الادعاء الذي طرحته أولا "لا يوجد حياد في الإعلام".
أما الموضوعية، فهي شيء آخر تماما، إنها ببساطة التأصيل المنهجي بطرق إدارية بحتة، حسب الخط التحريري للقناة، من أجل تحديد وجهة نظر معينة في قضية ما، ولنأخذ مثلا الانقلاب في مصر، أسمته قناة الجزيرة وغيرها انقلابا، وأسمته قنوات أخرى ثورة، هنا انتفى الحياد عن كلتا الحالتين، وما بقي هو مدى الموضوعية في كل تسمية، والموضوعية نقيضة الذاتية، أي أنها ليست قرارا شخصيا لمديري القناة مثلا، وإنما هي المسافة من الوسط إلى الطرف، وسط العصا وطرفي الموقف، وكل قناة تقرر كمؤسسة، ككيان معنوي كيف ستصف الحدث.
ثم نعود للسؤال الأبسط: هل ما حدث في مصر انقلاب؟ والجواب على ذلك يحدد ما إذا كان الشخص يعتبر قناة ما موضوعية أم لا، لأنه هنا، وهنا فقط عندما ننقل السؤال من الشاشة إلى المشاهد نقف على الحد الفاصل بين الموضوع والذات، فيختلطا، ويخرج كل ذي رأي برأيه، وتخرج كل قناة بصيغة الخبر التي تناسبها، لكن هل من حياد؟ طبعا لا.. لا يوجد حياد في الإعلام.
وعدا عن التفسير السابق، عدا عن السبب الإداري المالي لكل شبكة إعلامية سياسة تحريرية تحكمها، ورسالة تسعى لإيصالها، وهدف أو أهداف تبغي تحقيقها، ولها بذلك موجهات مسار ومحددات هوية، وهذا هو السبب الذي يجعل معظم القنوات الرسمية "العمومية" العربية، إن لم تكن كلها، لا تنقل إلا وجهة النظر "الحكومية" فقط، أي أنها بمصطلحات اليوم، لا زالت تعيش في الألفية السابقة، وهو نفس السبب الذي يجعل ناشيونال جيوغرافيك تصرف ملايين الدولارات على إنتاج وثائقي عن الدببة البيضاء شمالا والبطاريق جنوبا، فلكل وجهة هو موليها، ولكل هدف يسعى لبلوغه، تختلف معه أو تتفق، ذلك نقاش فكري شخصي، وليس صناعة إعلام مهني.
من المهم أن ننظر دائما إلى المؤسسات ككيانات معنوية، لا كأفراد نحبهم أو نبغضهم، نوافقهم أو نخالفهم، ويجب أن ننظر إلى الأمور -كل الأمور- بكثير من الواقعية والتجرد من الأحكام المسبقة، والانطباعات الشخصية، هذا طبعا إذا أردنا أن نرى الأمور بما يشبه حقيقتها، أو بما هو حقيقتها.
أخيرا، أشير إلى أن كل خبر يظهر على الشاشة، مهما بدا للمشاهد، بسيطا، معقدا، صادما، سخيفا، جيدا، سيئا.. فخلفه جهود مضنية، ووصل لليل بالنهار، كي يصلك الخبر والرأي والتحليل والمتابعة، وأنت في بيتك.. ونصيحتي لك، من مشاهد وصانع إعلام "لا تأخذ الخبر من مصدر واحد، وسع مداركك، وكثف مصادرك، وابن الصورة الخاصة بك، كاملة، كبيرة، بتجميعها من كل الصور الصغيرة".