الشهادة لإنسانٍ مُعَيَّن بالجنة أوِ النار

0 830

بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير من الصحابة رضوان الله عليهم بالجنة، وجاء ذكر عشرة من هؤلاء الصحابة المبشرين بالجنة في حديث واحد، وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، فعن سعيد بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عشرة في الجنة: أبو بكر في ‏الجنة، وعمر في الجنة، وعلي وعثمان والزبير وطلحة وعبد الرحمن وأبو عبيدة وسعد بن ‏أبي وقاص، قال: فعد هؤلاء التسعة، وسكت عن العاشر، فقال القوم: ننشدك الله يا أبا ‏الأعور (كنية سعيد بن زيد) من العاشر؟ قال: نشدتموني بالله، أبو الأعور في الجنة) رواه الترمذي وصححه الألباني. فمن شهد له الله تعالى، أو شهد له رسوله صلى الله عليه وسلم بالجنة بعينه فهو من أهلها قطعا، مثل الكثير من الصحابة رضوان الله عليهم ـ غير هؤلاء العشرة ـ الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة. ومن شهد الله تعالى له، أو شهد له رسوله بالنار على التعيين فهو من أهلها قطعا، كفرعون، وأبي لهب، وأبي جهل وغيرهم.

منهج وعقيدة أهل السنة والجماعة عدم الحكم والشهادة لأحد من أهل القبلة (الإسلام) بعينه بجنة ولا نار، إلا ما ورد نص صحيح فيه، لأن دخول أحد الجنة أو النار أمر غيبي، لا يعلمه إلا الله عز وجل، والله سبحانه يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، فمن حكم وشهد لأحد أنه من أهل الجنة أو من أهل النار ـ ممن لم يدل الدليل الصحيح من القرآن والسنة النبوية على ذلك ـ فقد تجرأ وقال على الله بلا علم، قال الله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}(الإسراء:36)، قال ابن كثير: "قال علي بن أبي طلحة عنابن عباس: يقول: لا تقل. وقال العوفي عنه: لا ترم أحدا بما ليس لك به علم. وقال محمد بن الحنفية: يعني شهادة الزور. وقال قتادة: لا تقل: رأيت، ولم تر، وسمعت، ولم تسمع، وعلمت، ولم تعلم، فإن الله سائلك عن ذلك كله. ومضمون ما ذكروه: أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم". ومن القول على الله بلا علم أن يشهد أو يقال أن الله عز وجل لا يغفر لفلان، أو أن فلانا من أهل الجنة، أو أن فلانا من أهل النار، فهذه المسألة غيبية مدارها على قاعدة الإيمان بالأمور الغيبية، فعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن رجلا قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك) رواه مسلم. قال النووي والقاضي عياض:" معنى (يتألى): يحلف، والألية اليمين، وفيه دلالة لمذهب أهل السنة في غفران الذنوب بلا توبة إذا شاء الله غفرانها". ومن ثم فالمسلم لا يشهد لأحد بالجنة مهما بلغ من الصلاح والتقى، ولا يحكم لأحد من المسلمين بالنار مهما عمل من المعاصي، لأنه لا يدري بما ختم له به، وما مات عليه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليعمل فيما يرى الناس عمل أهل الجنة وإنه لمن أهل النار، ويعمل فيما يرى الناس عمل أهل النار وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال بخواتيمها) رواه البخاري.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصبي من صبيان الأنصار، فصلى عليه، قالت عائشة: فقلت: طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل سوءا ولم يدركه! قال: أو غير ذلك يا عائشة، خلق الله عز وجل الجنة وخلق لها أهلا، وخلقهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلا، وخلقهم في أصلاب آبائهم) رواه النسائي وصححه الألباني. قال ابن الجوزي: "إنما نهاها أن تقطع للأطفال بالجنة، لأن القطع على علم الغيب ليس إليها". وقال العراقي: "لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع على ذلك". وقال النووي: "أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفا، وتوقف فيه بعض من لا يعتد به لحديث عائشة هذا. وأجاب العلماء بأنه لعله نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع.. ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة".

وعن خارجة بن زيد بن ثابت رضي الله عنه: (أن أم العلاء ـ امرأة من نسائهم قد بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ـ أخبرته أن عثمان بن مظعون طار لهم في السكنى، حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين، قالت أم العلاء: فاشتكى (مرض) عثمان عندنا فمرضناه حتى توفي، ثم جعلناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب (كنية عثمان بن مظعون)، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟ قالت: قلت: لا أدري بأبي أنت وأمي يا رسول الله فمن؟ قال صلى الله عليه وسلم: أما هو فقد جاءه والله اليقين (الموت)، والله إني لأرجو له الخير، وما أدري والله وأنا رسول الله ما يفعل بي، قالت: فوالله لا أزكي أحدا بعده) رواه البخاري.
لم يعترض النبي صلى الله عليه وسلم على قول أم العلاء رضي الله عنها: (رحمة الله عليك يا أبا السائب) إذ هو دعاء له بالرحمة، أما حينما قالت: (فشهادتي عليك لقد أكرمك الله)، وفي رواية قالت: (هنيئا لك الجنة يا أبا السائب)، اعترض النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال: (وما يدريك أن الله أكرمه؟) ثم قال: (والله إني لأرجو له الخير)، وفي ذلك تصحيح وتعليم من النبي صلى الله عليه وسلم لأم العلاء رضي الله عنها، إذ لا حرج ولا بأس في أن يدعو الإنسان للميت، بل هو مطالب بذلك لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أحاديث صحيحة في ذلك، لكن إطلاق الحكم لإنسان ما بأنه من أهل الجنة، أو آخر بأنه من أهل النار، مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه. وفي شرح الطيبي على مشكاة المصابيح: "قوله: (لا أدري، وأنا رسول الله) فيه وجوه: أحدها: أن هذا القول منه حين قالت امرأة لعثمان بن مظعون - لما توفي -: هنيئا لك الجنة، زجرا لها على سوء الأدب بالحكم على الغيب، ونظيره قوله لعائشة رضي الله عنها حين سمعها تقول: (طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة: أو غير ذلك يا عائشة!).. ولا يجوز حمل هذا الحديث وما ورد في معناه على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مترددا في عاقبة أمره، غير متيقن بماله عند الله من الحسنى، لما ورد عنه من الأحاديث الصحاح التي ينقطع العذر دونها بخلاف ذلك، وأنى يحمل على ذلك؟ وهو المخبر عن الله تعالى أنه يبلغه المقام المحمود، وأنه أكرم الخلائق على الله تعالى، وأنه أول شافع وأول مشفع".

من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم لا يشهدون لمعين بجنة ولا بنار، إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكن يرجون للمحسنين لإحسانهم وطاعتهم، ويخافون على المسيئين لذنوبهم وإساءتهم، هذا من حيث التعيين، أما من حيث العموم: فيشهدون على الظالم بالنار دون تنزيله على إنسان معين، ويشهدون للمطيع بالجنة دون تنزيله على إنسان معين.. قال الشيخ ابن عثيمين: "كل إنسان يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه في الجنة فهو في الجنة، وكل إنسان يشهد أنه في النار فهو في النار، وأما من لم يشهد له الرسول فنشهد له بالعموم، نقول: كل مؤمن في الجنة، وكل كافر في النار، ولا نشهد لشخص معين بأنه من أهل النار، أو من أهل الجنة، إلا بما شهد له الله ورسوله".
ومن عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يؤمنون ويعتقدون بأن المسلمين في الجنة، فمن مات على التوحيد موقنا أنه لا إله إلا الله فهو من أهل الجنة، وقد يدخل النار فيعذب بما عليه من الإثم، وقد يغفر الله له، وهو إن عذب بما عليه فمآله إلى الجنة، وهذا مما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وإجماع السلف واتفاق العلماء المعتبرين، قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}(النساء:116). وكذلك ـ أهل السنة والجماعة ـ يؤمنون ويعتقدون أن الذي لم يؤمن بالإسلام ولم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر مخلد في النار، للآيات الكثيرة الدالة على ذلك، ومنها قول الله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}(آل عمران:85)، قال السعدي: "أي: من يدين لله بغير دين الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده، فعمله مردود غير مقبول، لأن دين الإسلام هو المتضمن للاستسلام لله، إخلاصا وانقيادا لرسله فما لم يأت به العبد لم يأت بسبب النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه، وكل دين سواه فباطل". وقال تعالى: {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية}(البينة:6). وهذا الاعتقاد من لوازم ومقتضيات الإيمان، فإن من آمن بالله ربا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا، لزمه أن يصدق الله تعالى، ويصدق رسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به، ومن ذلك خلود الكافرين في النار، وهذا على سبيل العموم في الكافرين، وأما الكافر المعين فإنه لا يقطع بأن فلانا سيدخل النار إلا بنص خاص فيه، قال الشيخ ابن عثيمين: "الشهادة بالنار على نوعين: عامة وخاصة. فالعامة: أن نشهد على عموم الكفار بأنهم في النار، ودليلها قوله تعالى: {إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا}(النساء:56). والخاصة: أن نشهد لشخص معين بالنار، وهذا يتوقف على دليل من الكتاب والسنة مثل: أبي لهب وامرأته، ومثل أبي طالب".

لا يعلم الخواتيم وعواقب الأمور إلا الله سبحانه وتعالى، ومن ثم فلا يحكم لإنسان معين بجنة أو نار، إلا ما حكم له الوحي ـ القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة ـ بذلك، فإذا حكم الوحي لأحد أنه من أهل الجنة فالمقطوع به أنه من أهل الجنة، وإذا حكم الوحي لأحد أنه في النار، فالمقطوع به كذلك أنه في النار، ومع ذلك فأهل السنة والجماعة يرجون للمحسن الجنة، ويخافون على المسيء النار، والله عز وجل أعلم بالخواتيم.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة