ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض

0 1051

لولا أن الله تعالى يدفع كيد الكافرين ومكرهم وظلمهم وغشمهم بجهاد طائفة من المؤمنين ونضالهم ورباطهم؛ لصارت الأرض كلها غابة موحشة تعوي في جنباتها الذئاب، ولعل هذه الحقيقة بعض ما توحي به هذه الآية الكريمة: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين} (البقرة:251) وهي الآية التي ختم الله تعالى بها قصة طالوت، الملك الذي اختاره الله لبني إسرائيل، فخاض بهم الصراع مع جالوت الطاغية.

ويبدو جليا من سياق الآية الكريمة أنها تكشف عن سنة من السنن الإلهية الماضية، يمكن أن نسميها (سنة الدفع) كما كشفت عنها أية أخرى مشابهة لها، وهي قوله تعالى: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} (الحج:40) هذه السنة هي التي يحفظ الله بها عباده من الانسحاق تحت مطارق الصراع الأزلي الأبدي بين الحق والباطل؛ لذلك ختمت الآية الأولى بقوله تعالى: {ولكن الله ذو فضل على العالمين} وبقدر ما يحسن أهل الحق إدارة الصراع، يكون مستوى اندفاع الباطل واندحار أهله؛ ولذلك ختمت الآية الثانية بقوله تعالى: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}.

لكن اللافت للنظر أن (سنة الدفع) جاءت في سورة البقرة مسبوقة بذكر داود، والإشارة إلى ما شرفه الله به: {وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء} (البقرة:251) فهل سيكون لداود دور في إرساء قواعد إدارة الصراع؛ ليتحقق أعلى معدل للدفع؟ أجل؛ سيكون له دور كبير، وسيكون لولده أيضا دور لا يقل عنه في عظمته وإلهامه، فما هي قواعد إدارة الصراع حسبما يتضح من قصة النبيين العظيمين داود وسليمان عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام؟

لقد جاء الجزء الأكبر والأكثر إثارة من القصة في سورة ص؛ جاء مسبوقا بآيات تقرر سنة في الخلق، تعد هي الأساس السابق لسنة الدفع، وهي (سنة التدافع) التدافع بين الحق والباطل، ذلك التدافع الأزلي الأبدي الذي لا يفتر، وليس من طبيعته أن يفتر، أو يهدأ، لنتأمل سياق الآيات التالية: {ص والقرآن ذي الذكر * بل الذين كفروا في عزة وشقاق * كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص * وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب * أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب * وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد * ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق * أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب * أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب * أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما فليرتقوا في الأسباب * جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب * كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد * وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب * إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب * وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق * وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب * اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب} (ص:1-17).

إن الباطل وأهله في عزة ومغالبة وشقاق ومنازعة، والملأ منهم والكبراء يستحثون الأتباع الأذلاء أن يمضوا في عدائهم وحربهم للحق وأهله، وأن يصبروا على الارتباط بآلهتهم والاعتصام بها؛ بزعم أن دعوة الحق وراءها شيء يراد، وغرض يدبر له، وهذا الذي يمضون فيه هو دأب الأمم قبلهم، كقوم نوح وعاد وثمود وفرعون ذي الأوتاد، وكسائر الأحزاب الذين طغوا في البلاد؛ لأنها سنة ماضية لا تتخلف، سنة التدافع بين الحق والباطل، والصراع الدائم بين أهل الحق وأهل الباطل؛ ولأن إدارة الصراع فن له قواعده وأصوله، ختمت الآيات بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى مراجعة سيرة داوود ذا الأيد (أي: القوة).

و(القوة) تشمل القوة في الدين، والقوة في الدولة والحكم وأدوات الإكراه، فقد كان داود عليه السلام أوابا، كثير الرجوع إلى الله، وكثير الترديد للذكر، وهي خلة لا تكون إلا مع قوة الدين، وعظمة اليقين، وقد بلغ من شدة الاتصال بالله تعالى أنه كان إذا سبح الله سبحت معه الجبال والطير، وإلى جانب ذلك كان ملكه مشدودا، قويا بالقوة والحكمة وفصل الخطاب، فاجتمع له أمران ضروريان في خوض الصراع ضد الباطل: القوة والقدوة، ولكي تتم القدوة استدرك عليه الوحي في قصة التحكيم بألا يتبع الهوى، وأن يحكم بين الناس بالحق؛ لأنه خليفة في الأرض بمنهج الله تعالى، وسياق الآيات يري كيف اجتمع هذان الأمران: {اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب * إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق * والطير محشورة كل له أواب * وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب * وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط * إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب * قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب * فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب * يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب} (ص:17-26). 

 إن الحكم الرشيد العادل خلافة في الأرض بمنهج الله، وإنه في صراع دائم مع الباطل؛ لذلك وجب ان يجمع بين القوة والقدوة، فلا القوة تدفعه لتجاوز الحد، ولا القدوة تثنيه عن الإعداد واستكمال أدوات خوض الصراع، ومن هنا كان وصف الله تعالى لمحمد رسول الله والذين معه: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} (الفتح:29) فمثلهم في التوراة يبرز القدوة، ومثلهم في الإنجيل يبرز القوة؛ فاجتمع لهم القوة والقدوة، فبالقوة يواجهون أهل العناد، وبالقدوة يهدون قلوب العباد.

إن دولة الحق والعدل قدوة لجميع الدول في حماية الحريات وحقوق الإنسان، وفي إقامة العدل بين الناس، وفي تعظيم شعائر الله ومناسك الدين، وهي في الوقت ذاته تحوز القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والعلمية، وتواجه القوة بالقوة، وتدفع البغي والعدوان بما لا يندفع إلا به من أسباب الإكراه المادي، فلا قوتها تغريها بالظلم والعدوان، ولا تمسكها بالقدوة والاستقامة يرديها في مستنقع الذل والهوان، وبهذين: القدوة والقوة، تنجح في إدارة الصراع مع قوى الباطل.

ليس بإمكان الأمة الإسلامية أن تخوض الصراع الذي فرض عليها إلا باجتماع القدوة والقوة، هذا هو المقوم الأول من مقومات إدارة الصراع، والقاعدة الأولى من قواعده، ووراء هذه القاعدة جملة من القواعد التي تدور في فلكها وتنضبط ببوصلتها، وحيث إننا نستلهم هذه القواعد من سياق قصة داوود وسليمان عليهما السلام؛ فلا مناص من استدعاء المشهد الذي وقع فيه الصراع آنذاك.

فها هناك حضارتان عظيمتان لدولتين عظيمتين، الأولى: دولة سبأ: {إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم} (النمل:23)، والثانية: دولة داود وسليمان عليهما السلام: {وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين} (النمل:16) وعبارة (أوتينا) (أوتيت من كل شيء) التي تكررت في الآيتين تؤكد أنهما حضارتان قويتان، تتنافسان في حيازة أسباب القوة والازدهار، وقد كان بين هاتين الأمتين صراع، ظهر من سياق القصص القرآني أنه كان صراعا وجوديا من الأصل، انتهى باستسلام حضارة سبأ لحضارة سليمان عليه السلام.

فأما حضارة سبأ فقد كانت حضارة مادية جاهلية: {وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون} (النمل:24) وقد قامت لها دولة على أسس، أولها: تعانق السلطة والثروة: {ولها عرش عظيم} فهذا (العرش) لا تقتصر دلالته على السلطة فحسب، وإنما -لكونه عظيما إلى هذا الحد- فهو يرمز إلى اجتماع السلطة والثروة وتكدسهما في يد الحاكم ومن حوله من الملأ. والأساس الثاني: الديمقراطية الشكلية المزيفة، فها هي بلقيس تقرر الشكل المبهر للديمقراطية: {ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون} (النمل:32) وها هم (الملأ!) يقررون المضمون المتعثر للديمقراطية: {نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين} (النمل:33) فهذا ليس جواب مستشارين حقيقيين، وإنما هو جواب (عضلات) ينفذون ما تأمر به وتقرره، وكم من بلد تزعم أنها تعمل بالديمقراطية، وتدون ذلك في دستورها، وليس لها من روح الديمقراطية نصيب، وإن كانت الديمقراطية حتى في أعلى نماذجها عليها إشكالات ضخمة في النظرية والتطبيق، ليس هذا موضع سردها.

ولسنا مع من يضربون المثل ببلقيس في الديمقراطية الحقيقية، فلا سياق الآية يدل على هذا، ولا السياق التاريخي العام يدل عليه؛ فمن الثابت تاريخيا أن تجربة الديمقراطية إنما طبقت بصورتها المباشرة في أثينا قبل أن تهزم أمام إسبرطة في المعركة المشهورة، وأما الفكر اليوناني الذي جاء تاليا، فلم ينزل منه شيء للحيز العملي إلا بصورة جزئية في بعض فقرات التاريخ الروماني، ولم ينتشر نظريا بصورة موسعة إلا في كتابات شيشرون، التي آلت إلى جملة من المبادئ العامة، تخللت على استحياء شروح القانون الروماني، حتى جاءت النهضة الأوربية المعاصرة فاستخرجته، ونفضت عنه التراب، واعتمدته نظريا وعمليا بصور مختلفة، لم تسلم جميعها من الوقوع في قبضة طغاة المال، فلم نجد من يقول: إن العالم القديم قد تأثر عمليا بفكر أرسطو وغيره، و"الواقع أننا لو حكمنا على تلك الفلسفة على أساس الدور الذي لعبته في القرنين التاليين لوفاة أرسطو لما أمكن إلا أن نعدها فشلا ذريعا".

وأما دولة داود وسليمان فقد تأسست من أول يوم على دعائم راسية وأسس راسخة: الأول: الاتصال بالله تعالى، قال تعالى: {اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد إنه أواب * إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق * والطير محشورة كل له أواب * وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} (ص:17-20) فعلى الذكر والتسبيح والتأويب والتثويب شد الله تعالى ملك داود وسليمان عليهما السلام.

الأساس الثاني: العلم والحكمة: {ولقد آتينا داوود وسليمان علما} (النمل:15) {يا أيها الناس علمنا منطق الطير} (النمل:16) {وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب} (ص:20) {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} (الأنبياء:79).

الأساس الثالث: العمل الدائب المتقن: {يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور} (سبأ:13).

الأساس الرابع: التقنية الدقيقة: {أن اعمل سابغات وقدر في السرد} (سبأ:11) أي: اصنع دروعا واسعات تغطي البدن وتفيض عنه، ودقق في نسج حلقاتها وفي المسامير التي تمسك الحلقات بعضها ببعض، حتى تكون متناسقة متناغمة.

الأساس الخامس: العدل: {يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله} (ص:26) {وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين} (الأنبياء:78-79).

إن الدولة التي تنسب نفسها للحق، وتخوض الصراع الكبير ضد عالم قام في نظامه المهيمن على الباطل والنفاق، يجب أن تتوافر لديها هذه الأسس العملاقة، فليست بالإيمان وحده قادرة أو ظافرة حتى تأخذ بأسباب العلم والعمل والتقنية، وليست بالقوة وحدها بالغة ما تريد من الظفر والتمكين، حتى تكون عادلة، وحتى تنشر العدل في كل الميادين، وإذا هي بذلت وسعها في استجماع هذه الأسس وغيرها مما لابد منه لجاءها المدد من الله تعالى، ولو بأسباب غير مألوفة، ولنصرها الله عز وجل بجند من عنده، مثلما أمد سليمان عليه السلام بجنود من غير الآدميين: {وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون} (النمل:17)، ومثلما أيد الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم وصحبه بالملائكة: {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} (الأنفال:9).

ولا ريب أن استيفاء هذه الأسس في الدولة والأمة أحد قواعد إدارة الصراع وأحد مقومات النجاح والفلاح في نتائجه، لذلك في نهاية قصة الصراع بين بلقيس وسليمان انتهى الصدام بسيادة الإسلام: {قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين} (النمل:44).

ولا شك أن ثمة مقومات عديدة، وقواعد عتيدة، وأسس هامة، تحتاج بسطا من القول لاستخلاص الدروس المستفادة من قصة هذين النبيين العظيمين. 

* مادة المقال مستفادة من موقع (ترك برس).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة