زينة العبادة.. الخــوف

0 480

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. وبعد:
فإن العبد في سيره إلى الله والدار الآخرة لابد أن يتقلب في ثلاث مقامات، وينزل منازل ثلاث، لا غنى له عنها هي: الحب، والخوف، والرجاء.
جاء رجل إلى طاووس فوجده في الموت؛ فجلس عند رأسه يبكي فقال: ما يبكيك؟. قال: أبكي على علم جئت أتعلمه. فقال: فإني أعلمك كلمات فيها علم الأولين والآخرين: أحب الله حتى لا يكون شيء أحب إليك منه، وخف الله حتى لا يكون شيء أخوف عندك منه، وارج الله حتى لا يكون شيء أرجى عندك منه.

أيها الأحبة: القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر: المحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه.. فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان أو أحدهما صار نهبة لكل صائد وكاسر.

فالجمع بين هذه الثلاثة حتم لازم، وحق واجب، ومتى ذهب واحد منها وقع الخلل في الديانة، والعبادة؛ ولذا قال مكحول الدمشقي: من عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئي، ومن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو موحد صديق.
فالحرورية (الخوارج) نظروا إلى الوعيد فكفروا المسلمين بالذنب، وخلدوهم في النار بالكبيرة.. والمرجئة غلبوا جانب الرجاء حتى قالوا الإيمان الكلمة، ولا يضر مع الإيمان معصية.. وأما غلاة الصوفية فتركوا الخوف والرجاء وزعموا أنهم محبون بلا خوف ولا رجاء فتعاملوا مع الله معاملة العشاق، وقالوا فيه مثل كلامهم وظنوا أن لهم عند الله مقاما لا يعذبهم أبدا، حتى قال أحدهم: لو دخلت النار لبصقت فيها فأطفأتها..
وأما أتباع الرسل فعبدوا الله على الحب والخوف والرجاء جميعا.. فالمحبة هي المركب، والرجاء حاد، والخوف سائق، والله الموصل بمنه وكرمه.

الكلام عن الخوف:
وقد اخترت أن أبدأ بالحديث عن الخوف؛ لأن السلف رضي الله عنهم استحبوا أن يقوي العبد في حال الصحة جانب الخوف على جانب الرجاء، والعكس عند الموت.
وقالوا: ينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإن غلب عليه الرجاء فسد.
وقالوا: ما فارق الخوف قلبا إلا خرب.
وقالوا: الخوف هو سوط الله يقوم به الشاردين عن بابه.
وقالوا: الخوف سراج في القلب يستضيء به فلا يتعثر في المخالفات.
وقالوا: الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا الطريق.

الخوف زينة العبادة
وإذا كان مفهوم الخوف: هو توقع العقوبة على مجاري الأنفاس، كما قال الجنيد رحمه الله، فيتوقع العبد عقاب الله له على سيء فعاله وقبيح خصاله مع كل نفس ومع كل طرفة عين" فيكون ذلك مانعا له عن الوقوع في المخالفة. فمن امتلأ قلبه بمثل هذا ازدان وانتفع.
قال حاتم الأصم: "لكل شيء زينة وزينة العبادة الخوف". وقال الفضيل: "من خاف الله دله الخوف على كل خير".

ولهذا جعله الله فرضا على كل أحد فقال سبحانه: {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}[آل عمران:175]، وقال: {وإياي فارهبون}[البقرة:40]، وقال: {فلا تخشوهم واخشوني}[البقرة:150]، {واتقون يا أولي الألباب}[البقرة:197].

ومدح أهل الخوف فقال: {إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون * والذين هم بآيات ربهم يؤمنون * والذين هم بربهم لا يشركون * والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون * أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون}[المؤمنون:57 -61].
ولما نزلت هذه الآيات قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟! قال:لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه][رواه الترمذي].
قال الحسن: عملوا والله بالطاعات، واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحسانا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنا.

إن خشية الله والوجل منه والخوف من عقابه هو وصف الملائكة الأبرار، والأنبياء الكرام، والعباد والصالحين الأخيار..
قال سبحانه عن الملائكة: {يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون}(الأنبياء: )

وروى الإمام الطبراني في الأوسط عن جابر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله].
وروى أحمد بسند جيد عن أنس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام: [ما لي لا أرى ميكائيل يضحك؟ قال: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار].

وأما الأنبياء الكرام عليهم أفضل الصلاة والسلام؛ فاسمع إلى وصف الله لهم في سورة الأنبياء فقال: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين}[الأنبياء:90]،
وفي سورة مريم: {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا}[مريم:58].

وروى أبو داود والنسائي وابن حبان بسند حسن عن عبد الله بن الشخير قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وفي صدره أزيز كأزيز الرحى(وفي رواية "المرجل") من البكاء".
وقيل له: قد شبت يا رسول الله. قال: "شيبتني هود وأخواتها" [رواه الترمذي].
ولما قال له أبو بكر قد شبت يارسول الله؟ رد عليه قائلا: "شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت".

وكان عمر رضي الله عنه يمر بالآية من القرآن في ورده بالليل فيمرض شهرا يعوده الناس. وروى أهل السير عنه أن الدموع حفرت خطين أسودين في وجه عمر..
وكان تحت عيني ابن عباس مثل الشراك البالي من كثرة الدموع.
فقل لي بربك: كيف تحفر الدموع مجرى في اللحم، وكم يحتاج ذلك من الزمان.
من لم يبت والخوف حشو فؤاده.. ... ..لم يدر كيف تفتت الأكباد

كان أبو عبيدة يقول: وددت أني كنت كبشا فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويحسون مرقي.
وقال كثير من الصحابة: ليتني كنت شجرة تعضد، ليت أمي لم تلدني.

وما لهم رضي الله عنهم لا يقولون، ولا يبكون، ولا يخافون وقد رأوا رسول الله وشدة خوفه مع جلالة قدرة ومكانه عند ربه، وقد سمعوه يقول لهم: [لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله].

لا تأمنوا مكر الله
. أيها الكرام: لا ينبغي للمسلم أن يأمن مكر الله ولا أن يأمن عقوبة الله تنزل به في أي وقت من ليل أو نهار، وكيف يأمن وأغلب العالم في ضلال، وأكثر المسلمين مفرطون مضيعون، وأحوالنا الله بها عليم.. فكان من الحصافة عدم الأمن.
قالت ابنة الربيع ابن خثيم: يا أبت! ما لي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟ قال: يا بنية! إن أباك يخاف البيات.(وهو نزول عذاب الله ليلا).
قال تعالى: {أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون * أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون * أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}[الأعراف:97-99].

. لا ينبغي للمسلم أن يأمن وهو لا يدري ما كتب له في اللوح المحفوظ. من أي الفريقين هو؟ ومع من كان حين ألقى الله النور على ذرية آدم؟ وفي أي القبضتين كان حين قبض ربنا قبضتين وقال لأهل اليمين هؤلاء الجنة ولا أبالي, وقال عن الأخرى وهؤلاء للنار ولا أبالي؟
ولهذا كان سفيان يقول: هل أبكاك قط سابق علم الله فيك؟
وقال السري السقطي: "قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم، وقلوب المقربين معلقة بالسوابق".

. لا ينبغي والله للمؤمن أن يأمن ويطمئن في هذه الحياة، وأمامه أهوال وأحوال لا يعلم حاله فيها إلا الله من شدة موت، وسؤال قبر، وزلة صراط، وهول المطلع، وطول القيامة والمنصرف إلى الجنة أو إلى النار..
يقول الحسن: يحق لمن يعلم أن الموت مورده، وأن الساعة موعده، وأن القيام بين يدي الله مشهده أن يطول حزنه.

بل ينبغي لمن لا يخاف أن يخاف ألا يكون من أهل الجنة؛ فإن أهل الجنة قالوا بعد ما دخلوها: {قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين . فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم . إنا كنا من قبل ندعوه ۖ إنه هو البر الرحيم}(الطور52ـ54).
وقال عنهم أيضا بعد ما دخلوها: {جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ۖ ولباسهم فيها حرير . وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ۖ إن ربنا لغفور شكور}(فاطر:34، 35).
فقد كانوا في هذه الحياة خائفين وجلين مشفقين، فجزاهم الله بالأمن والسعادة والطمأنينة والهناء والراحة. {ادخلوها بسلام ءامنين}.
فمن أراد الأمن في الآخرة فلا يطمئن للدنيا ولا يأمن بحاله فيها، وعليه بلزوم الخوف فإن [من خاف أدلج ومن أدلج دخل الجنة].

الخوف النافع
ولكن لابد أن يعلم أن كل ما ذكرناه في الخوف وعنه إنما يراد به ذلك الخوف الذي يحمل العبد على العبادة والاجتهاد فيها، ويحجبه عن الوقوع في المعاصي والولوغ فيها؛ فهو خوف حامل على الطاعة مانع من المعصية .. أما أن يزداد الخوف بحيث يحمل صاحبه على القنوط والإياس من رحمة أرحم الراحمين فهذا خوف مذموم غير محمود ولا مطلوب ولا مرغوب.

ولا يصح هذا الخوف ولا يعتدل ولا ينفع إلا إذا صاحبه رجاء في رحمة الله وطمع في عفو الكريم الوهاب وهو ما نتكلم عنه في مقالة قادمة إن أحيانا الله وأبقانا.. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة