- اسم الكاتب:د.راغب السرجاني
- التصنيف:محاسن الأخلاق
"إن حسن الخلق، ولين الجانب، والرحمة بالضعيف، والتسامح مع الجار والقريب تفعله كلأمة في أوقات السلم مهما أوغلت في الهمجية، ولكن حسن المعاملة في الحرب، ولين الجانب مع الأعداء، والرحمة بالنساء والأطفال والشيوخ، والتسامح مع المغلوبين، لا تستطيع كل أمة أن تفعله، ولا يستطيع كل قائد حربي أن يتصف به؛ إن رؤية الدم تثير الدم، والعداء يؤجج نيران الحقد والغضب، ونشوة النصر تسكر الفاتحين؛ فتوقعهم في أبشع أنواع التشفي والانتقام، ذلك هو تاريخ الإنسان منذ سفك قابيل دم أخيه هابيل: {إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين}(المائدة:27).
وهنا يضع التاريخ إكليل الخلود على قادة حضارتنا، عسكريين ومدنيين، فاتحين وحاكمين؛ إذ انفردوا من بين عظماء الحضارات كلها بالإنسانية الرحيمة العادلة في أشد المعارك احتداما، وفي أحلك الأوقات التي تحمل على الانتقام والثأر وسفك الدماء، وأقسم لو أن التاريخ يتحدث عن هذه المعجزة الفريدة في تاريخ الأخلاق الحربية بصدق لا مجال للشك فيه لقلت إنها خرافة من الخرافات، وأسطورة لا ظل لها على الأرض!".
فإذا كان السلم هو الأصل في الإسلام، وإذا شرعت الحرب في الإسلام لأسباب وأهداف محددة، فإن الإسلام كذلك لم يترك الحرب هكذا دون قيود أو قانون، وإنما وضع لها ضوابط تحد مما يصاحبها، وبهذا جعل الحروب مضبوطة بالأخلاق ولا تسيرها الشهوات، كما جعلها ضد الطغاة والمعتدين لا ضد البرآء والمسالمين.
وتتمثل أبرز هذه القيود الأخلاقية فيما يلي:
أولا: عدم قتل الشيوخ والنساء والأطفال:
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي قادة الجند بالتقوى ومراقبة الله تعالى ليدفعهم إلى الالتزام بأخلاق الحروب، ومن ذلك أنه يأمرهم بتجنب قتل الولدان؛ فيروي بريدة فيقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، وكان مما يقوله: "..ولا تقتلوا وليدا.."(رواه مسلم) وفي رواية أبي داود: " ولا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا، ولا صغيرا، ولا امرأة..".
ثانيا: عدم قتل المتعبدين:
فقد أخبر ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه يقول لهم: "لا تقتلوا أصحاب الصوامع".
وكانت وصيته للجيش كما نقلها ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال : "اخرجوا باسم الله قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله ، ولا تعتدوا ، ولا تغلوا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا الولدان ، ولا أصحاب الصوامع".(أحمد).
ثالثا: عدم الغدر:
فكما مر معنا، كان من وصيته للجيش: "ولا تغدروا". ولم تكن هذه الوصية في معاملات المسلمين مع إخوانهم المسلمين، بل كانت مع عدو يكيد لهم، ويجمع لهم، وهم ذاهبون لحربه! وقد وصلت أهمية هذا الأمر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تبرأ من الغادرين، ولو كانوا مسلمين، ولو كان المغدور كافرا؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من أمن رجلا على دمه ثفقتله فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرا".(البخاري وغيره).
وقد ترسخت قيمة الوفاء في نفوس الصحابة رضي الله عنهم حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه في ولايته أن أحد المقاتلين قال لمحارب من الفرس لا تخف. ثم قتله، فكتب رضي لله عنه إلى قائد الجيش: إنه بلغني أن رجالا منكم يطلبون العلج(الكافر)، حتى إذا اشتد في الجبل وامتنع يقول له: لا تخف. فإذا أدركه قتله، وإني والذي نفسي بيده لا يبلغني أن أحدا فعل ذلك إلا قطعت عنقه.
رابعا: عدم الإفساد في الأرض:
فلم تكن حروب المسلمين حروب تخريب كالحروب المعاصرة التي يحرص فيها المتقاتلون من غير المسلمين على إبادة مظاهر الحياة لدى خصومهم، بل كان المسلمون يحرصون أشد الحرص على الحفاظ على العمران في كل مكان، لو كان ببلاد أعدائهم، وظهر ذلك واضحا في كلمات أبي بكر الصديق رضي الله عنه عندما وصى جيوشه المتجهة إلى فتح الشام، وكان مما جاء فيها: "ولا تفسدوا في الأرض". وهو شمول عظيم لكل أمر حميد.
وجاء أيضا في وصيته: " ولا تغرقن نخلا ولا تحرقنها، ولا تعقروا بهيمة، ولا شجرة تثمر، ولا تهدموا بيعة..".
وهذه تفصيلات توضح المقصود من وصية عدم الإفساد في الأرض؛ لكيلا يظن قائد الجيش ان عداوة القوم تبيح بعض صور الفساد؛ فالفساد بشتى صوره أمر مرفوض في الإسلام.
خامسا: الإنفاق على الأسير:
إن الإنفاق على الأسير ومساعدته مما يثاب عليه المسلم، وذلك بحكم ضعف الأسير وانقطاعه عن أهله وقومه، وشدة حاجته للمساعدة، وقد قرن القرآن الكريم بر لأسير ببر اليتامى والمساكين؛ {ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا}(الإنسان:8). ( ولعلنا نفرد لمعاملة الأسير في الإسلام مقالا آخر إن شاء الله).
سادسا:عدم التمثيل بالميت:
فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة، فروى عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النهبى، والمثلة ".(البخاري).(النهبى: أخذ المرء ما ليس له جهارا، والمثلة: التنكيل بالمقتول، بقطع بعض أعضائه). وقال عمران بن الحصين رضي الله عنه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يحثنا على الصدقة، وينهانا عن المثلة".(أبو داود وغيره).
ورغم ما حدث في غزوة أحد من تمثيل المشركين بحمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يغير مبدأه، بل إنه صلى الله عليه وسلم هدد المسلمين تهديدا خطيرا إن قاموا بالتمثيل بأجساد قتلى الأعداء، فقال: "أشد الناس عذابا يوم القيامة: رجل قتله نبي، أو قتل نبيا، وإمام ضلالة، وممثل من الـممثلين"(أحمد). ولم ترد في تاريخ رسول الله صلى الله عليه وسلم حادثة واحدة تقول بأن المسلمين مثلوا بأحد من أعدائهم.
هذه هي أخلاق الحروب عند المسلمين.. تلك التي لا تلغي الشرف في الخصومة، أو العدل في المعاملة، ولا الإنسانية في القتال أو ما بعد القتال.