الاحتجاج بشعر من جاءوا بعد زمن الفصاحة

0 380

لم لا يجوز الاحتجاج في اللغة بكبار الشعراء والكتاب الذين جاءوا بعد زمن الفصاحة كأبي تمام والمتنبي والجاحظ وأمثالهم؟
الجواب عن هذا أن الواحد من هؤلاء إما أن يكون قد أتى باللفظ أو الأسلوب الذي يراد الاحتجاج به من طريق النظر والمقايسة، وإما أن يكون قد جاء به من طريق السليقة غير الواعية.
فإن كان الأول لم يجز الاحتجاج به لأنه يعد رأيا منه واجتهادا مع ما يحتوشه من احتمال الاضطرار الشعري.
وليس رأي العالم بحجة إلا بما معه من البرهان الصحيح والدليل المقنع، فكيف بالشاعر أو الكاتب!.
وإن كان الثاني فإن المحدثين إنما لقنوا العربية بالدرس والتعلم لا بالتنشئة والسماع والمحاكاة للفصحاء، فقد يجوز أن يدركوا بطول الدربة والمراس وبمداومة الاشتغال بالكلام الفصيح ودرسه بعض السليقة لا كلها، لأن السليقة لا تستوي للمتكلم ولا تتم تمامها ولا تؤتي أكلها إلا إذا لبث المتكلم مدة من صدر صباه يتقلب بين الفصحاء ويسمع كلامهم المرة بعد المرة في جميع شئون حياتهم ومختلف أغراضهم ثم يجريه على لسانه المرة بعد المرة أيضا من غير أن يدخل على سليقته ما يخل بها من الكلام الملحون.

فأما الكبير الذي شب عن الطوق وانقادت له سليقة أخرى من كلام العامة الملحون فإنه لا يستطيع أن يدرك بمجرد القراءة للكلام الفصيح والحفظ له سليقة قوية تامة في اللغة التي يرومها، وإنما غاية أمره أن يدرك سليقة في بعض أنظمة اللغة وقوانينها، فتجده مثلا لا يخطئ في باب الفاعل ولا المجرور بحرف أو بإضافة وإن أغفل الحذر والتحفظ.

وربما استطاع بالسليقة أيضا أن يصيب في جمع بعض الألفاظ أو تصغيرها. ولقد سمعت بعض الصبية يقول في جمع (جبل): (جبول) وسمعت آخر يقول في جمع (كنب): (أكناب). وسمعت ثالثا يسمي الكلمة: (القرية) أي المقروءة، على صيغة اسم المرة. فأصابوا إنفاذ القياس من غير سماع سالف. ولكن من يجيد أمثال هذا بالسليقة قد لا يكون محكما باب النسب وباب التصغير وباب الاستثناء ونصب المضارع وجزمه مثلا بجميع تفاصيلها ومسائلها لأنه لم ينل من طول المراس والتجريب ولا من كثرة الاستماع ما يناله من خالط الفصحاء في أول صباه، فإذا استهدى بسليقته في هذه الأبواب خانته وأسلمته إلى الخطأ المحض.
ونحن إذا سوغنا الاحتجاج بكلام المحدث فقد أجزنا لأنفسنا أن نحتج بكل كلمة وردت في شعره أو نثره مع أنا لا ندري ما مقدار قوة سليقته ومضائها في هذه الكلمة التي قالها ولا مبلغ إجادته للحكم المتعلق بها، فقد يجوز أن يكون ارتكب ذلك عن إجادة منه واقتدار، وقد يجوز أن يكون ذلك عن وهن فيه واختلال دخل عليه من قلة ممارسته لبابها.

على أنه ليست بنا حاجة أصلا إلى أن نحتج بكلام المحدثين البتة لأن المحدث لا يسعه أن يستعمل في كلامه لفظا أو أسلوبا مرتجلا لا يدرك بالقياس، وإنما غايته أن يولد بعض الألفاظ أو الأساليب بما عنده من إدراك سليقي بالأقيسة حازه من خلال استقرائه لكلام العرب القديم وطول نظره فيه.
وجميع ما استقرأه من كلامهم حاضر عندنا ومطروح بين أيدينا ومدون في الكتب التي وصلت إلينا لم يحتجن منه شيء ولم يفت منه فائت، فنحن قادرون على أن ندرك بالاستقراء الفعلي الواعي له ما أدركه هو بالسليقة غير الواعية مع أمننا من عوارض الضرورة والوهم ومغامز الضعف والوهن.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة