- اسم الكاتب: إسلام ويب
- التصنيف:أحوال القلوب
مما لا شك فيه أن الإيمان إنما ينزل في القلب ويربى فيه أولا، ثم يزدا العبد علما وبصيرة فيه كلما ازداد من علوم القرآن والسنة. ومما لا شك فيه أيضا أن العبد قد يتحول من الإيمان إلى نقيضه كلما استحكمت الغفلة وطالت، وكلما زادت الآثام وتتابعت، فإذا لم يتدارك العبد ذلك بالتوبة النصوح والإقبال على الله تعالى بطاعته كان على خطر عظيم.
ويدل على هذه المعاني حديث حذيفة رضي الله عنه حين قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين، رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا: "أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة ". وحدثنا عن رفعها قال: "ينام الرجل النومة، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر الوكت (وهو الأثر اليسير كالنقطة)، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل (وهو النفاخات التي تخرج في الأيدي عند كثرة العمل بنحو الفأس)، كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه منتبرا وليس فيه شيء (يعني: أثر ذلك مثل أثر الجمر الذي يقلب ويدار على القدم فيخلف انتفاخا على القدم، وهذا الانتفاخ ليس فيه شيء صالح، إنما هو ماء فاسد)، فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلا أمينا، ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان". ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت، لئن كان مسلما رده علي الإسلام، وإن كان نصرانيا رده علي ساعيه، فأما اليوم: فما كنت أبايع إلا فلانا وفلانا.(البخاري).
وقد حدث ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من ارتفاع الأمانة من قلوب كثير من الناس حتى لا تكاد ترى بين الناس من الأمناء إلا النادر النادر؛ ومرجع ذلك إلى ضعف الإيمان في القلوب. كما حدث ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من تبدل موازين الناس، حيث يصبح المعيار ما عند الرجل من الدنيا من ثروة وجاه وسلطة وشهرة..حتى وإن لم يكن في قلبه من الإيمان مثقال حبة خردل من إيمان.
فالذي يرفع من القلوب أساسا إنما هو الإيمان ولوازمه وشعبه، ومنها أداء الأمانة بمختلف أنواعها. وقد اختار الطبري رحمه الله تعالى أن الأمانة هي الدين والطاعة والودائع، وذلك في تفسير قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا}(الأحزاب / 72 ).
فقال رحمه الله: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قاله الذين قالوا: إنه عني بالأمانة في هذا الموضع: جميع معاني الأمانات في الدين وأمانات الناس وذلك أن الله لم يخص بقوله : {عرضنا الأمانة} بعض معاني الأمانات لما وصفنا).
وقال ابن كثير رحمه الله - بعد إيراد أقوال في تفسيرها - :
( وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف، وقبول الأوامر والنواهي بشرطها، وهو أنه إن قام بذلك أثيب، وإن تركها عوقب، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه ، إلا من وفق الله).
ولا شك أن الأمانة بمعنى الودائع وضرورة ردها إلى أصحابها تنبثق من هذا الإيمان الذي استقر في القلب، وقد أخرج الإمام أحمد رحمه الله عن أنس رضي الله عنه قال: ما خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم إلا قال: " لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له ".
وما سبق يدل على أن التربية على الأخلاق لكريمة النبيلة تستلزم تربية الإيمان؛ لهذا يقول الترمذي رحمه الله تعالى: (الإيمان عش الأمانة).
فإذا تمكن الإيمان في القلب فإن صاحبه كلما أطاع الله تعالى بطاعة، وكلما قرأ القرآن والسنة، ازداد علما وبصيرة، وازدادا عملا بالقرآن والسنة فحسنت منه السريرة والعلانية. قال جندب بن عبد الله رضي الله عنه: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة (أشداء) ، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن ؛ فازددنا به إيمانا).
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدثنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده فيها كما تعلمون أنتم القرآن ، ثم قال: لقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما أمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه ينثره نثر الدقل).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
( والله سبحانه هو رب كل شيء ومليكه وهو معلم كل علم وواهبه فكما أن نفسه أصل لكل شيء موجود ؛ فذكره والعلم به : أصل لكل علم ، وذكره في القلب.
والقرآن يعطي العلم المفصل ، فيزيد الإيمان ...).
وقال أيضا :
(التفريغ والتخلية التي جاء بها الرسول أن يفرغ قلبه مما لا يحبه الله ويملأه بما يحبه الله، فيفرغه من عبادة غير الله ويملؤه بعبادة الله ، وكذلك يفرغه عن محبة غير الله ويملؤه بمحبة الله ، وكذلك يخرج عنه خوف غير الله ويدخل فيه خوف الله تعالى، وينفي عنه التوكل على غير الله ويثبت فيه التوكل على الله. وهذا هو الإسلام المتضمن للإيمان الذي يمده القرآن ويقويه لا يناقضه وينافيه كما قال جندب وابن عمر: " تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا" ).
وقال أيضا :
( الصحابة أخذوا عن الرسول لفظ القرآن ومعناه، بل كانوا يأخذون عنه المعاني مجردة عن ألفاظه بألفاظ أخر، كما قال جندب بن عبد الله البجلي وعبد الله بن عمر: تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن، فازددنا إيمانا. فكان يعلمهم الإيمان، وهو المعاني التي نزل بها القرآن من المأمور به والمخبر عنه المتلقى بالطاعة والتصديق، وهذا حق، فإن حفاظ القرآن كانوا أقل من عموم المؤمنين ).
وتعلم الصحابة للإيمان قبل استكثارهم من الحفظ، ساهم فيه أن أسس الإيمان مبثوثة في سور المفصل؛ ولذا سمى ابن مسعود رضي الله عنه سور المفصل بلباب القرآن.
فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، قالت: (إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام ، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب: {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر } وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده ).
فالحاصل: أن الإيمان قبل القرآن، يتحصل بأن يربي المؤمن نفسه على العقائد والشرائع التي جاء بها القرآن، ويأخذ ذلك بعزيمة وقوة، فإذا شرع بعد ذلك في الاستكثار من حفظ آيات القرآن، حفظه وهو يشعر أنه مخاطب بها؛ فيتمعن ويتدبر فيما يحفظ، ويخاف أن يكون حجة عليه فيسارع للامتثال بما حفظ.
وهذا لا شك أصل مهم، فالمؤمن له قلب أحب الإيمان ومال إليه وتذوق حلاوته وحسنه وجماله وأذعن له؛ ولهذا كان من الدعاء المأثور: " اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين..".
أما المنافقون فقد قال الله فيهم: {يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون}.(التوبة:8).
وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في شأنهم: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم}.(المائدة:41).
وإذا نظرت إلى الصحابة رضي الله عنهم لوجدت أن الإيمان قد غيرهم وصنع منهم نماذج تحتذى وقدوات يقتدى بها.
وعلى الجانب الآخر كلما ضعف الإيمان في القلب أثمر ذلك انحرافا في السلوك والخلق، ويكفي للدلالة على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتبعوا عوراتهم ؛ فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ، ومن تتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته".
فتربية الإيمان في القلوب تمثل دافعا قويا لفعل وممارسة أخلاق الإسلام بمحبة وتلذذ؛ ذلك أن الإنسان إذا رضي أمرا واستحسنه سهل عليه أمره ولم يشق عليه شيء منه، فكذلك المؤمن، إذا دخل الإيمان قلبه واستقر فيه سهلت عليه الطاعات، واجتناب المحظورات، وتحلى بمكارم الأخلاق وتنزه عن مساوئها.
نسأل الله تعالى أن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.