شهر له فلسفة (1)

0 354

فإن أياما طيبة توشك أن تفد إلينا، إن بشائر الموسم الكبير -موسم العبادة والتقوى- تهب علينا، وتستروحها قلوبنا، وإن كان المرء يتساءل ما أسرع ما عادت الأيام، ورجعت الذكريات!

إذا ألقى الإنسان نظرة خلفه، إن كان بلغ العشرين أو الثلاثين، أو الأربعين، أو الخمسين، أو أكثر، أو أقل، فإن يشعر أن الأيام التي عاشها، والليالي التي قضاها قد تداخل بعضها في البعض، وأصبحت كتلة واحدة منكمشة مبهمة، لا يدري بالضبط إلا أنها أصبحت ماضيا، تركه خلفه، ولن يعود!

الإحساس بالزمن غريب؛ لأن الناس يوم يلقون ربهم سيشعرون بأن الأعمار كلها، وقد أصبحت ماضيا، انكمشت وتداخلت أجزاؤها بعضها في البعض الآخر، وأصبحت شيئا قليلا: {قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين * قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين * قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون} (الإسراء:112-114). تكرر هذا المعنى في القرآن، فهو جل شأنه يتحدث عن الساعة: {يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا * يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا * نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما} (طه:102-104). 

والواقع أن الإنسان يبقى على ظهر الأرض مدة طويلة، الطفل فيها يشب، والشاب يشيخ، ومع ذلك فالمرء ينظر إلى عمره خلفه، فلا يجد إلا أن هذا الماضي الطويل قد أصبح هذه الكتلة المنكمشة في زمن مبهم، لا يدري أوله ولا آخره، ولكن الإنسان الذي لا يدري ما كان يجب أن يعمل أن الله يسجل عليه كل ما كان {إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون} (الجاثية:29).

وقد مرت سنة، ففي مثل هذه الأيام كنا نتهيأ لاستقبال شهر رمضان المبارك، والآن نتهيأ لاستقبال شهر آخر حتى نلقى ربنا! نرجو أن ننتفع من الزمن، الذي هو رأس مالنا هو هبة القدر الأعلى لنا، إنه لا يجامل، إنه إما صديق، وإما عدو، صديق إذا انتفعت به، وعدو إذا أهملته وأضعته.

ورمضان يجئ، ولا نتحدث عنه طويلا، إنما نريد أن نتحدث عن فلسفة الإسلام في العلاقة بين الروح والجسد، لمناسبة صيام المسلمين في رمضان، فإن هذا الصيام في حقيقته ترويض للغرائز البشرية العاتية، فليس هناك أعتى من غريزة البطن، التي تطلب الأكل باستمرار! وليس هناك أعتى من غريزة الجنس، التي تريد أن تنفس عن تطلعها باستمرار!

والبشرية قد تنكب نكبة قاصمة، إذا هي لم تحسن تحديد موقفها من كلا الأمرين، والمتأمل في سير القافلة الإنسانية يجد أنه هناك فلسفتين، استطاعتا أن تسيطر على جماهير كثيفة من الناس، فلسفة مادية موغلة في المادة، وفلسفة روحية موغلة في الروح؛ فأما الموغلون في الفكر المادي من ملحدين، ومن شيوعيين، ومن وجوديين، ومن وثنيين، فإنهم يعيشون ليومهم الحاضر، ويطلقون العنان لغرائزهم، فما تقف عند حد، إنهم يطلبون المتع! وطبيعة البشر أنهم إذا أحرزوا نصيبا من الشهوة، استهانوا بما أحرزوه، وازدروه، وطلبوا شيئا أكثر وأعلى؛ ولذلك فإن الشهوات البشرية مسعورة، يسلم بعضها إلى بعض، ويتطلع من حاز قليلا إلى كثير، ومن حاز الكثير إلى أكثر! ومن هنا، فإن القرآن هدد هؤلاء: {ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون} (الحجر:3).

وقال تعالى: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم} (محمد:12) إنهم في هذه الدنيا فارغوا البال، يجرون وراء نزواتهم، ويقطعون الطريق إليها في خفة، لكنهم يوم القيامة يدفعون ثمن هذا مرارة، يشعرون بغصتها في حلوقهم، ويقال لهم: {ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون} (غافر:75) هذه فلسفة مادية، هناك فلسفة روحية قامت على الرهبنة، ورأت أن من عبادة الله كبت الغريزة الجنسية، وسحق نوازعها، واعتبار القرب من الله على أساس أن يمت المرء بدنه نوازع التطلع إلى الجنس الآخر، وأن يحيا بذلك رجلا كان أو امرأة، وربما استعان على ذلك بتقليل الطعام حينا، المهم أنهم دخلوا في معركة ضد الجسد البشري! وهذه الفلسفة تبنتها المسيحية من قديم!

ولكن من التقرير للواقع أن نقول: إن الفلسفتين قاتلت إحداهما الأخرى، وإن عواصم الغرب الآن سحقت فلسفة الكنيسة، وتخلصت منها، وإن عواصم أوربا الآن تنفق من وقتها، ومن مالها أغلب ما تكسب وقودا لشهوات الجسد! وإن فلسفة الروحانية اختفت، وإن الكنائس المسيحية ليس لها وارد حتى يوم الأحد، وإن المسيحية إذا كان لها وجود أو ازدهار فبين الأقليات التي تعيش في العالم الإسلامي!

وقصة إماتة الجسد، وقتل الغرائز بالرهبنة، فإن هذه القصة قد تلاشت، وتوشك الآن أن تنتهي، بل إن الرهبنة نفسها أصبحت شيئا يفر منه أصحابه سرا أو علنا!

والواقع أيضا أن الإسلام كان دينا منصفا عندما احترم الروح والجسد معا، وعندما اهتم بالخصائص العليا للإنسان، وفي الوقت نفسه كفل ضرورات الحياة للغرائز الدنيا، فجعلها تتحرك ولكن داخل إطار معلوم، وسياج حارس، وتقاليد ضابطة، وفضائل معروفة مقصاة، فترك الغريزة الجنسية تأخذ مداها في بيت الطاعة في فراش الزوجية، ومنع ما وراء ذلك منعا صارما حاسما!

وأباح للإنسان أن يأكل، ولكنه بين له أن القصد والعفاف خير له وأولى، وفي هذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (كلوا، واشربوا، وتصدقوا، والبسوا، ما لم يخالطه إسراف، أو مخيلة) رواه ابن ماجه، وحسنه الشيخ الألباني، أي: إسراف وخيلاء، كل والبس في غير إسراف ولا خيلاء.

صالح الإسلام بين الروح والجسد، فقال عليه الصلاة والسلام، وهو يحافظ على جسده وروحه: (اللهم إني أعوذ بك من الجوع، فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة، فإنها بئست البطانة) رواه أصحاب السنن إلا الترمذي، وحسنه الشيخ الألباني، وقال فيما صح عنه: (اللهم إني أعوذ بك من الكفر، والفقر، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، لا إله إلا أنت) رواه أبو داود، وحسنه الشيخ الألباني، الكفر ضياع الآخرة، والفقر ضياع الدينا!

والإسلام كفل الاثنين معا: {وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين} (النحل:31) الإسلام في تعاليمه يريد تزكيتك، ورفع مستواك، فيطهر جسدا بالغسل والوضوء، ثم يطهرك روحا بالركوع والسجود. الإسلام جسد وروح، دنيا وآخرة.

وبين الإسلام حقيقة تعرف مع فلسفة الصيام، هذه الحقيقة أن الإنسان وإن كان قد نبت من الأرض جسده، فإن قيمته ليست في هذا الجسد الذي يطعم ويكتسي، ولكن قيمته في الروح الذي يحركه، الإنسان من حيث هو جسد لا كرامة له، وما كلف أحد بأن يسجد له، إنما كان التكريم وتكليف الملائكة بالسجود له بعد شيء آخر، قال تعالى: {إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين * فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} (ص:71-72) فسجود الملائكة لآدم إنما كان بعد أن سواه ربه، ونفخ فيه من روحه، قبل أن ينفخ فيه من روحه، قبل أن يسويه بالعقل والشعور والإحساس، كان طينة من الأرض، إذا تحركت بحياة حيوانية، فلا وزن لها، إنما كرامة الإنسان في أنه نفخة من روح الله.

والناس بعد ذلك قسمان: قسم يعرف من نفخ فيه من روحه؟ من كرمه على سائر الخلق؟ قسم يعرف هذا، ويشكر ولي النعمة رب العالمين، الذي سوى وكرم، هذا القسم هو المؤمن، عرف نسبه السماوي، وعرف الفضل الأعلى الذي أسبغ عليه، فهو جدير بأن يحترم، وأن ينعم في دار الخلد.

وقسم آخر نسي ربه، نسي من نفخ فيه من روحه، نسي من برأه من عدم، نسي هذا كله، ولذلك يعاتبه ربه ويقول: {يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك} (الانفطار:6-8). لماذا تنسى؟ إذا كان الإنسان وهو فرد يؤمن ويكفر، أو ينسى ربه، أو يذكر، أو يجحد نسبه الأعلى، أو يعترف به، فكذلك الحضارات. وأنا آسف أن أقول: إن العالم الآن تنفرد بزمامه حضارات ذهلت عن ربها، ونسيت حقه! فإما أنكرت هذه الحضارات رب العالمين البتة، كما تفعل الشيوعية، أو اعترفت به على نحو مضحك، كما جاء في العهد القديم، عندما يوصف رب العالمين بأنه أكل من الوليمة التي صنعها إبراهيم عندما ذبح له العجل السمين، وقال له: يا رب! إن كان عبدك له نعمة عندك، فكل من وليمته، فأكل الله من وليمته!

هذا النوع من تصوير الألوهية رفضه العقل الإنساني، فكانت النتيجة أن ناسا إما كفروا صراحة، وإما انتسبوا إلى أديان لم تملأ فراغهم النفسي، فعاشوا بأفئدة فارغة، وكملوا هم طريقة معيشتهم، واتجاه سلوكهم على ما يشتهون!

وهذا العلم تنقصه حضارة أخرى، حضارة تعترف بالروح والجسد، وتخدم الدنيا والآخرة، وتحدد حقوق الناس إلى جانب ما لرب العالمين من حقوق، هذه الحضارة هي الحضارة الإسلامية، وهي حضارة ليس لها الآن من دعاة في العالم، وليس لها من كيان أدبي محترم، وليس لها عالم تأرز -تأوي- إليه، وتستجمع فيه، وتقدم نماذج من تكوينها المادي والأدبي، ولينظر الآخرون إليه، ويوازنوا بينه وبين غيره.

* مادة المقال من خطبة للشيخ محمد الغزالي في شعبان (1393هـ) ضمن كتاب (مقالات الإسلامين في شهر رمضان/ د.محمد موسى الشريف).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة