في وداع الشيخ يحيى بن الشيخ سيديا

0 1235

ودعت الأمة الإسلامية هذه الأيام علما من أعلامها، ورائدا من رواد العلم والدعوة فيها، قل أن يجود الزمان بمثله، إنه : العالم العامل العابد السني الحافظ : الشيخ يحيى بن الشيخ سيدي المختار بن الشيخ سيديا الكبير.
ولد الشيخ يحيى رحمه الله وتربى في حاضنة علمية يعرفها القاصي والداني، فالشيخ سيديا الكبير أحد أقطاب العلم وسادة المجد الذين ذاع صيتهم في القطر الشنقيطي، فلا يوجد أحد في طول البلد وعرضها لا يعرف مجد، وعلم، وفضل الشيخ سيديا وأبنائه من بعده، إذ حملوا مشعل العلم، وإقامة دين الله دعوة وكرما، ونشرا للبر بين الناس في بلاد شنقيط.
- الشيخ يحيى رحمه الله عاش حياته المديدة في رحاب القرآن وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم يقول عنه الشيخ النووي بن سليمان (حفظه الله ): " كان – رحمه الله تعالى رحمة واسعة – لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى ، وتلاوة القرآن ، كثير التفكر في آيات الله وآلائه، لا يتكلم إلا بما يراه خيرا، يتحرى غاية التحري فيما يتلفظ به، مع رجاحة العقل، وقوة الحجة، كان نصيرا للحق، ناصحا للخلق، حليما، موطأ الأكناف يؤلف، سلم المسلمون من لسانه ويده، فسلم منهم، قد تجد له المخالف، لكن لا تجد له العائب".
- عاش الشيخ يحيى في منطقة نائية بعيدة عن العاصمة والمدينة ( تيدملين) ، أقام بها صرحا علميا عاليا، فكانت محضرته بدوام كامل يدرس فيها شتى العلوم، وكان طلابه من كل فج عميق يتزاحمون عليه، وكانت نفقته تشملهم جميعا، فالطالب عليه فقط أن ينشط للدرس، والشيخ يعلمه، وينفق عليه، ويخدمه، ويسهر على مصالحه كلها، ولا غرو فقد ورث هذا المجد من آبائه.
يقول أحد علماء موريتانيا متحدثا عن الشيخ يحيى رحمه الله :" خصاله في الخير لا تحصى ومآثره في المجد لا تستقصى، انعته بما شئت مما ينعت به صالحو هذه الأمة".

يحدثنا عنه الشيخ النووي وقد لازمه زمنا طويلا : "كان صحيح المعتقد على منهج أهل السنة في الاعتقاد والعمل والزهد، محبا للسنة مؤثرا لها، منقطعا بالكلية لتعليم الناس وإرشادهم وتزكية نفوسهم على السنة لا يقدم عليها أي شيء، يقول :" لازمته في الحضر والسفر أزيد من عشرين سنة فما رأيت أحدا أشد تعظيما لحرمات الله تعالي منه، ولا أفقه في دقائق الأدب مع الله تعالى ومع شرعه منه، ولم أر أحدا -على كثرة ما لقيت من أهل الفضل- أسهل عليه الرجوع لحق تبين له بالدليل منه، ولا رأيت أعف لسانا ولا أشد تحرزا من أعراض الناس منه".

مولده ونشأته وطلبه للعلم وتصدره:
ولد الشيخ يحيى رحمه الله تعالى في ضواحي مدينة بوتلميت في صفر عام 1355 للهجرة (1936م)
رأى أبوه قبل ولادته في المنام قائلا يقول له: [يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيي لم نجعل له من قبل سميا] فعزم- إن ولد له غلام- أن يسميه يحيي فكان ذلك.
- نشأ الشيخ يحيى في هذا البيت الرفيع في العلم والمجد والثراء محفوفا بالخدم والحشم والأتباع، فوضع له أبوه منهجا علميا سار عليه، لأنه كان يؤمل فيه العالم الرباني الوارث لمكانة أجداده وأسلافه، فكان يرعاه ويحوطه بعناية خاصة، ويوجهه منذ نعومة أظافره إلى طلب العلم رافعا لهمته عن الركون إلى تلك النعمة الهنية.
أخذ له أبوه المربين والمؤدبين والمقرئين ثم لما شب لازم شيخه وابن عمه: الشيخ عبدالله بن داداه، وكان لشيخه هذا شأن، لا بد من الإشارة إليه هنا، فقد كان عالما ربانيا متبحرا، أعجوبة في الذكاء والفهم والحفظ، وقد اختط لمحضرته التي أسسها منهجا على سنن السلف في الاعتقاد والتلقي والعمل، والرجوع إلى الكتاب والسنة، ونبذ البدع والخرافة والتعصب المذهبي المذموم من غير انفراط لسلك التفقه على المذهب السائد في تلك البلاد.
ضم إلى ذلك جانبا من التصوف المنضبط بالشرع من غير غلو ولا انحراف على طريقة الأولين في الزهد والاعتناء بتزكية النفس.
وما إن بلغ الشيخ يحيى مبلغ الفتيان حتى ظهرت عليه علامات النبوغ وإرهاصات التصدر بادية للعيان، فكان شيخه يوكل إليه تدريس بعض الطلاب ويخلفه في محضرته حال غيابه.

ولما توفي شيخه عبد الله (20- 06- 1394 هــــ- 1974ـ) خلفه في محضرته خير خلافة متفرغا للتدريس والتربية معرضا عن الدنيا وإغراءات أهلها، لم يؤخذ على تدريس من يدرسهم أي مقابل، لا منهم ولا من الدولة، بل إن الحكام والهيئات كانوا يعرضون عليه الأعطيات فيردها، وكان يقول: "إن كانت العطية لي خاصة فلا حاجة لي بها، وإن كانت للطلاب فأعطوهم إياها يتصرفون فيها."
وزاره مرة حاكم مدينة بوتلميت وعرض عليه أن الدولة ترغب في أن تجري له راتبا يستعين به، فاعتذر ورده ردا جميلا فلما ودعه رجع يردد هذه الآية: [أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين]
- كان الشيخ يحيى رحمه الله تعالى يقرض الشعر وله منظومات في تقييد الفوائد العلمية في الفقه والنحو والصرف وعلوم القرآن، ولم يكن له آثار مكتوبة غير بعض الفتاوى كعادة غالب علماء الشناقطة، لكنه في مقابل ذلك درس وربى خلقا لا يحصون كثرة، أجاز في قراءة نافع فئاما يعدون بالمئات من غير مبالغة، كما درس جموعا غفيرة مختلف العلوم الشرعية، وتخرج عليه عدد كبير منهم، كان لهم الأثر البارز في موريتانيا عموما وخارج موريتانيا.
- كان الشيخ رحمه الله لا يحب التصوير، ولا توجد له صورة شخصية، رغم أنه حج عام 1975 إلا أننا نتوقع أن أن السلطات استثنته من التصوير وقتها، لكراهيته للصورة.

- يحدثنا الشيخ عبد الله بن سليمان (العباد) وقد لازم الشيخ زمنا طويلا، يحدثنا عن يوم الشيخ مع طلابه : يبدأ الشيخ يومه مع طلابه بعد صلاة الضحى بتدريس طلاب القرآن ثم يتتابع بعد ذلك طلاب العلوم الأخرى مرتبين: الأول فالأول (هذا يدرس اللغة، وذاك الفقه، وثالث الأصول، وآخر السنة، فهو إمام موسوعي في الشريعة كلها) وربما واصل يومه إلى ساعة متأخرة من الليل، لا يقطعه إلا بالفرائض ورواتبها، ثم يختم يومه بقيام الليل".
خلف – رحمه الله تعالى- أبناء سادة بررة، نسأل الله تعالى أن يضع فيهم البركة، وأن يجعلهم خير خلف لخير سلف، وأن يعينهم على تحمل الأمانة التي أنيطت بهم.
توفي رحمه الله  فجر الأربعاء 16 رجب من سنة 1441 للهجرة(11/3/2020).
رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، ووفاه أجره موفورا من غير حساب، وأخلفه في عقبه وتلاميذه ومحبيه خير خلف، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
 

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة