من حكم الابتلاء بالضراء أو الشر

0 1121

من أسماء الله -عز وجل- "الحكيم" ولهذا الاسم كما لغيره من الأسماء الحسنى آثار في الخلق تترتب عليه، ومن مقتضى ذلك أن تكون أفعاله- سبحانه وتعالى-، وما يجري به قضاؤه وقدره لا يخلو من الحكمة، علمها من علمها وجهلها من جهلها، وسنحاول هنا أن نتأمل بعض- وليس كل- أسرار الابتلاء بالضراء أو ما تراه النفوس شرا.

للابتلاء بالضراء أو الشر حكم عديدة نشير إلى أهمها فيما يلي:

أ- تقوية الإيمان بالقضاء والقدر:
يقول الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: على الإنسان أن يؤمن بقضاء الله وقدره، قال تعالى: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين}(الأنعام/59) : {ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير } (الحج/ 70)، {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير}(الحديد/ 22).

وعلى المسلمين أن يؤمنوا بمشيئة الله في عموم ملكه فإنه ما من شيء في السماوات أو في الأرض إلا وهو ملك لله عز وجل: { لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير }(المائدة/ 120)، وما من شيء في ملكه إلا وهو بمشيئته وإرادته فبيده الملك، وبيده مقاليد السماوات والأرض، ما من شيء يحدث من رخاء وشدة، وخوف وأمن، وصحة ومرض، وقلة وكثرة، إلا بمشيئته سبحانه وتعالى. هو سبحانه خالق الإنسان ومدبره، فللإنسان عزيمة وإرادة، وله قدرة وعمل، والذي أودع فيه تلك العزيمة وخلق فيه القدرة هو الله عز وجل ولو شاء لسلبه الفكر فضاعت إرادته، ولو شاء لسلبه القدرة فما استطاع العمل.

إن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة لا يتم الإيمان إلا به، لكنه ليس حجة للإنسان على فعل معاصي الله أو التهاون بما أوجب الله، وجه ذلك أن الله أعطاك عقلا تتمكن به من الإرادة والاختيار، وأعطاك قدرة تتمكن بها من العمل فلذلك إذا سلب عقل الإنسان لم يعاقب على معصية، ولا ترك واجب، وإذا سلب قدرته على الواجب لم يؤاخذ بتركه.

ب- الابتلاء جسر يوصل إلى أكمل الغايات:
يقول ابن القيم- رحمه الله-: (إذا تأملت حكمته سبحانه فيما ابتلى به عباده وصفوته وجدت أنه ساقهم به إلى أجل الغايات وأكمل النهايات التي لم يكونوا يعبرون إليها إلا على جسر من الابتلاء والامتحان، وكان ذلك الجسر لكماله كالجسر الذي لا سبيل إلى عبورهم إلى الجنة إلا عليه، وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين المنهج في حقهم والكرامة، فصورته صورة ابتلاء وامتحان وباطنه فيه الرحمة والنعمة، فكم لله من نعمة جسيمة ومنة عظيمة تجنى من قطوف الابتلاء والامتحان، فتأمل حال أبينا آدم عليه السلام وما آلت إليه محنته من الاصطفاء والاجتباء والتوبة والهداية ورفعة المنزلة، ولولا تلك المحنة التي جرت عليه وهي إخراجه من الجنة وتوابع ذلك لما وصل إلى ما وصل إليه...).
فرق كبير بين حال آم عليه السلام قبل الابتلاء وبعده؛ فقبل الابتلاء: {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى*وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى}(طه/118-119) أكل وشرب وتمتع، وبعد الابتلاء وقد أخبر عنه المولى بقوله: {ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى}(طه/122). وهذه الحالة الثانية حال اجتباء واصطفاء وهداية، وكما يقول ابن القيم رحمه الله: ويا بعد ما بينهما.

ج- الابتلاء وسيلة للتمكين في الأرض:
قيل للشافعي- رحمه الله- يا أبا عبد الله، أيهما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى؟ (أي بالضراء) ، فقال الشافعي: لا يمكن حتى يبتلى، فإن الله تعالى ابتلى نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا- صلوات الله عليهم أجمعين- فلما صبروا (على الابتلاء) مكنهم.
وآيات الكتاب تشهد لهذا المعنى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}(السجدة/24).

د- تمحيص المؤمن وتخليصه من الشوائب المنافية للإيمان:
إن المصائب التي تصيب الناس في أنفسهم أو في أرزاقهم، أو غير ذلك مما يتصل بهم مما يسرهم الكمال فيه ويؤلمهم النقص منه، تكمن حكمتها في التمحيص الناتج عن هذا الابتلاء والامتحان، يقول الله تبارك وتعالى: {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين* وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين* أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}( آل عمران/ 140- 142) .

قال القاسمي (4/239) :(أي لينقيهم ويخلصهم من الذنوب ، ومن آفات النفوس . وأيضا فإنه خلصهم ومحصهم من المنافقين ، فتميزوا منهم...ثم ذكر حكمة أخرى وهي ( ويمحق الكافرين ) أي يهلكهم ، فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا ، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ؛ إذ جرت سنة الله تعالى إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم ، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم وطغيانهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسليط عليهم ... وقد محق الله الذي حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأصروا على الكفر جميعا).

فالبلايا والمحن محك يكشف عما في القلوب وتظهر به مكنونات الصدور، ينتفي بها الزيف والرياء، وتنكشف الحقيقة بكل جلاء.. قال الفضيل بن عياض : (الناس ما داموا في عافية مستورون ، فإذا نزل بهم بلاء صاروا إلى حقائقهم ؛ فصار المؤمن إلى إيمانه ، وصار المنافق إلى نفاقه).

وروى البيهقي في "الدلائل" عن أبي سلمة قال : افتتن ناس كثير - يعني عقب الإسراء - فجاء ناس إلى أبي بكر فذكروا له فقال : أشهد أنه صادق . فقالوا : وتصدقه بأنه أتى الشام في ليلة واحدة ثم رجع إلى مكة ؟ قال نعم , إني أصدقه بأبعد من ذلك , أصدقه بخبر السماء , قال : فسمي بذلك الصديق.

فالابتلاء قد يقتضي في بعض أشكاله أن يكون بالمصيبة وبما تكره النفوس ، وتحمل المؤمن مصائب الامتحان الإلهي بصبر وصدق مع الله ورضا بقضائه وقدره، هو من أفضل أعماله الصالحة، التي يكتب الله له بها أجرا عظيما وثوابا جزيلا. قال الله تعالى: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤن موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين* ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون}(التوبة/ 120- 121) ، إن هذه الضراء ليست هي خاتمة المطاف، وسرعان ما تنقشع وتزول، يقول الله تعالى: {فإن مع العسر يسرا* إن مع العسر يسرا}(الشرح/ 5- 6)، ولن يغلب عسر يسرين.

هـ- الردع والتحذير من الغرور:
إن العقوبة العاجلة على ما اقترفه الإنسان أو الجماعة أو الأمة من معاص تقتضي حكمة المولى- عز وجل- أن تعجل عقوبتها حيث إن فيها ردعا وتحذيرا وعبرة، لهم ولغيرهم من الأفراد والجماعات، وقد أشارت إلى ذلك الآية الكريمة: {كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون}(الأعراف/ 163). وقوله عز من قائل: {وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون}(الأعراف/ 165) ، وقال سبحانه: {قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين}(الأنعام/ 11).

و- الرحمة بالعصاة والتخفيف عنهم يوم القيامة:
من حكمة الابتلاء بالعقوبة أن يعجل الله للمذنب عقوبته فتأتيه في الدنيا تخفيفا عنه يوم القيامة، يقول الله- عز وجل-: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير}(الشورى/ 30) .

قال علي- رضي الله عنه-: هذه أرجى آية في كتاب الله عز وجل، وإذا كان يكفر عني بالمصائب ويعفو عن كثير فما يبقى بعد كفارته وعفوه!!.
وعن أنس- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة". (رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب).
وروى البخاري رحمه الله عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه، حتى الشوكة يشاكها".

وقال ابن عون: إن محمد بن سيرين لما ركبه الدين اغتم لذلك، فقال: إني لأعرف هذا الغم، هذا بذنب أصبته منذ أربعين سنة. وقال عكرمة: ما من نكبة أصابت عبدا فما فوقها إلا بذنب لم يكن الله ليغفره له إلا بها، أو لينال درجة لم يكن يوصله إليها إلا بها.

ز- إقامة حجة العدل على العباد:
يقول ابن القيم- رحمه الله-: ومنها (أي من الحكم في الابتلاء بالضراء) إقامة حجة عدله عز وجل على عبده ليعلم هذا العبد أن لله عليه الحجة البالغة، فإذا أصابه من المكروه شيء فلا يقول: من أين هذا؟ ولا من أين أتيت؟ ولا بأي ذنب أصبت؟ وما نزل بلاء قط إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة، والله عز وجل يقول:{ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}. {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير}.

الابتلاء يربي فينا الشوق إلى الجنة:
لن تشتاق إلى الجنة إلا إذا ذقت مرارة الدنيا ، فكيف تشتاق إلى الجنة وأنت هانئ في الدنيا ؟ الهم والغم والتعب والمحن والمرض والديون والمشاكل....إلخ كل هذا يشوقك إلى دار لا يوجد فيها شيء من هذا الكدر، وليس ذلك إلا في الجنة، ألم يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمن يدخل الجنة أنه :"ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم...".
"لا يبصقون فيها، ولا يمتخطون، ولا يتغوطون....لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا". وبعد غزوة أحد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: " اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول و لا يزول ، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة " وهو نعيم الآخرة ، أي : أسألك يا الله أن تكمل علي النعيم يوم الشدة والفقر، وأن تغنيني عن السؤال، والافتقار لسواك من الخلق.
كما كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: "وأسألك نعيما لا ينفد، و أسالك قرة عين لا تنقطع..".
نسأل الله تعالى العافية في الدنيا والآخرة، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة