بيعة الرضوان وفَضْل أهلها

0 566

بيعة الرضوان بيعة تمت وحدثت في مكان يبعد عن مكة ما بين خمسين أو ستين كيلو مترا يسمى الحديبية، وقد بايع المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم فيها على قتال مشركي قريش، لاعتقادهم أنهم قتلوا عثمان بن عفان رضي الله عنه. ففي ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة النبوية أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى قريش ليبين لهم أنه وأصحابه يقصدون مكة لأداء العمرة وليس للقتال، فتأخر عثمان رضي الله عنه في العودة، فظن المسلمون أن قريشا قتلته، حينئذ دعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى البيعة على قتال قريش، فبايعوه جميعا تحت الشجرة على الموت وعلى ألا يفروا، وذلك فيما عرف ببيعة الرضوان.

وقد ذكرت كتب السيرة النبوية خبر هذه البيعة بطرق متعددة، وبألفاظ متقاربة، من ذلك ما رواه ابن هشام في السيرة النبوية، وابن كثير في البداية والنهاية: ".. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش، يخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته. فخرج عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة، أو قبل أن يدخلها، فحمله بين يديه ثم أجاره حتى بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش، فبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به، فقالوا لعثمان حين بلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت أن تطوف بالبيت فطف، قال: ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتبسته قريش عندها، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل".
وعن يزيد بن أبي عبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع: (على أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية (بيعة الرضوان)؟ قال: على الموت) رواه البخاري، وفي روايتين لمسلم عن جابر رضي الله عنه قال: (لم نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت إنما بايعناه على أن لا نفر)، وعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: (لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس، وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة، قال: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على أن لا نفر). وقد ذكر ابن حجر في كتابه "فتح الباري شرح صحيح البخاري" أنه لا تعارض بين المبايعة على الموت وعلى أن لا يفروا، حيث قال: "وقد أخبر سلمة بن الأكوع ـ وهو ممن بايع تحت الشجرة ـ أنه بايع على الموت، فدل ذلك على أنه لا تنافي بين قولهم بايعوه على الموت، وعلى عدم الفرار، لأن المراد بالمبايعة على الموت أن لا يفروا ولو ماتوا، وليس المراد أن يقع الموت ولا بد".
وبعد أن تمت هذه البيعة المباركة بين الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم، رجع عثمان رضي الله عنه فقال له بعض المسلمين ـ كما ذكر البيهقي في دلائل النبوة، والسيوطي في الخصائص الكبرى وغيرهما: "اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف بالبيت؟ فقال عثمان: بئس ما ظننتم بي، فوالذي نفسي بيده لو مكثت بها مقيما سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية ما طفت بها حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد دعتني قريش إلى الطواف بالبيت فأبيت، قال المسلمون: رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعلمنا بالله وأحسننا ظنا".

منزلة أهل بيعة الرضوان:
يكفي أهل بيعة الرضوان فضلا وشرفا ومنزلة أن الله تعالى رضي عنهم، ومدحهم وأثنى عليهم، إذ قال الله تعالى فيهم: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا}(الفتح:18)، قال ابن كثير: "يخبر تعالى عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة،.. وأن الشجرة كانت سمرة بأرض الحديبية.. وقوله: {فعلم ما في قلوبهم} أي: من الصدق والوفاء، والسمع والطاعة، {فأنزل السكينة}: وهي الطمأنينة، {عليهم وأثابهم فتحا قريبا}: وهو ما أجرى الله على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة، ثم فتح سائر البلاد والأقاليم عليهم، وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة". وقال السعدي: "يخبر تعالى بفضله ورحمته، برضاه عن المؤمنين إذ يبايعون الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المبايعة التي بيضت وجوههم، واكتسبوا بها سعادة الدنيا والآخرة".

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لنا يوم الحديبية: (أنتم خير أهل الأرض، وكنا ألفا وأربعمائة، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة) رواه البخاري. وجاء عن سعيد بن المسيب: (أنهم ألف وخمسمائة)، قال ابن حجر: "والجمع بين هذا الاختلاف أنهم كانوا أكثر من ألف وأربعمائة، فمن قال: ألف وخمسمائة جبر الكسر، ومن قال ألف وأربعمائة ألغاه، ويؤيده قول البراء في رواية عنه: "كنا ألفا وأربعمائة أو أكثر"، واعتمد على هذا الجمع النووي". وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة) رواه أبو داود وصححه الألباني.
وعن أم مبشر رضي الله عنها: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة رضي الله عنها: (لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها، قالت: بلى يا رسول الله، فانتهرها، فقالت حفصة: {وإن منكم إلا واردها}(مريم:71)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قد قال الله عز وجل: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا}(مريم:72)) رواه مسلم. قال النووي: "قال العلماء معناه لا يدخلها أحد منهم قطعا كما صرح به في الحديث الذي قبله حديث حاطب، وإنما قال إن شاء الله للتبرك لا للشك، وأما قول حفصة: بلى، وانتهار النبي صلى الله عليه وسلم لها، فقالت: {وإن منكم إلا واردها}، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وقد قال ثم ننجي الذين اتقوا) فيه دليل للمناظرة والاعتراض والجواب على وجه الاسترشاد وهو مقصود حفصة، لا أنها أرادت رد مقالته صلى الله عليه وسلم، والصحيح أن المراد بالورود في الآية المرور على الصراط، وهو جسر منصوب على جهنم فيقع فيها أهلها وينجو الآخرون".

لقد كانت بيعة الرضوان مقدمة وتمهيدا وسببا مباشرا لعقد صلح الحديبية، ذلك الصلح الذي كان فتحا مبينا للإسلام والمسلمين، إذ عندما علمت قريش بتلك البيعة، ومدى قوة وعزيمة المسلمين في موقفهم، وثباتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومبايعتتهم له على عدم الفرار والموت، أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فريقا للتفاوض معه، فتم صلح الحديبية، الذي كان الصحابة رضوان الله عليهم يعدونه ـ مع ما كان في ظاهره من إجحاف بالمسلمين ـ فتحا ونصرا للإسلام والمسلمين، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إنكم تعدون الفتح فتح مكة، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية"، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: "ما كان فتح أعظم في الإسلام من فتح الحديبية، ولكن الناس يومئذ قصر رأيهم عما كان بين محمد صلى الله عليه وسلم وربه، والعباد يعجلون".. ومن ثم فإن بيعة الرضوان بيعة مباركة، تدل على عظمة الصحابة رضوان الله عليهم، وصدقهم ووفائهم، وعلو منزلتهم عند الله عز وجل، قال الله تعالى فيهم: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا}(الفتح:18).

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة