أبو حاتم الرازي الإمام الحافظ

0 389

هو محمد بن إدريس بن المنذر بن داود الرازي الحنظلي، لأنه كان يسكن في درب حنظلة، بمدينة الري، الغطفاني ، أحد الأئمة الحفاظ، والأثبات العارفين بعلل الحديث، والجرح والتعديل. وهو قرين أبي زرعة رحمهما الله، ولد سنة خمس وتسعين ومئة، وبكر بطلب الحديث وكتابة العلم؛ فبدأ كتابة الحديث وهو ابن أربع عشرة سنة، سمع الكثير وطاف الأقطار والأمصار، وروى عن خلق من الكبار، سمع عبد الله بن موسى، وأبا نعيم، وطبقتهما بالكوفة، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، والأصمعي، وطبقتهما بالبصرة، وعفان، وهوذة بن خليفة، وطبقتهما ببغداد، وأبا مسهر، وأبا الجماهر محمد بن عثمان، وطبقتهما بدمشق، وأبا اليمان، ويحيى الوحاظي، وطبقتهما بحمص، وسعيد بن أبي مريم، وطبقته بمصر، وخلقا بالنواحي الثغور.
 
رحلته في طلب الحديث: 
 
تردد رحمه الله في الرحلة زمانا، فطوف البلدان،  وتكبد المشاق في رحلاته، ولاقى الشدائد، وعد ما مشى على قدميه في أول رحلة، فبلغ ما يقرب من مسيرة أربعة أشهر سير الجاد، ثم ترك العد، يخبر ابنه عنه أنه قال: كتبت الحديث سنة تسع، وأنا ابن أربع عشرة سنة.
 
وقال أيضا: سمعت أبي يقول: أول سنة خرجت في طلب الحديث، أقمت سبع سنين، أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ.قال: ثم تركت العدد بعد ذلك، وخرجت من البحرين إلى مصر ماشيا، ثم إلى الرملة ماشيا، ثم إلى دمشق، ثم أنطاكية وطرسوس، ثم رجعت إلى حمص، ثم إلى الرقة، ثم ركبت إلى العراق، كل هذا في سفري الأول وأنا ابن عشرين سنة.
 
وقال أيضا: خرجت من الري، فدخلت الكوفة في رمضان سنة ثلاث عشرة، وجاءنا نعي المقرئ وأنا بالكوفة، ثم رحلت ثانيا سنة اثنتين وأربعين، ثم رجعت إلى الري سنة  خمس وأربعين، وحججت رابع حجة في سنة خمس وخمسين.
 
وقال أيضا: سمعت  أبي يقول: بقيت في سنة أربع عشرة، ثمانية أشهر بالبصرة، وكان في نفسي أن أقيم سنة، فانقطعت نفقتي، فجعلت أبيع ثيابي حتى نفدت، وبقيت بلا نفقة، ومضيت أطوف مع صديق لي إلى المشيخة، وأسمع إلى المساء، فانصرف رفيقي، ورجعت إلى بيتي، فجعلت أشرب الماء من الجوع، ثم أصبحت، فغدا علي رفيقي، فجعلت أطوف معه في سماع الحديث على جوع شديد، وانصرفت جائعا، فلما كان من الغد، غدا علي، فقال: مر بنا إلى المشايخ، قلت: أنا ضعيف لا يمكنني.قال: ما ضعفك؟ قلت: لا أكتمك أمري، قد مضى يومان ما طعمت فيهما شيئا. فقال: قد بقي معي دينار، فنصفه لك، ونجعل النصف الآخر في الكراء، فخرجنا من البصرة، وأخذت منه النصف دينار.
 
وسمعت أبي يقول: خرجنا من المدينة، من عند داود ، وصرنا إلى الجار وركبنا البحر، فكانت الريح في وجوهنا، فبقينا في البحر ثلاثة أشهر، وضاقت صدورنا، وفني ما كان معنا، وخرجنا إلى البر نمشي أياما، حتى فني ما تبقى معنا من الزاد والماء، فمشينا يوما لم نأكل ولم نشرب، ويوم الثاني كمثله، ويوم الثالث، فلما كان المساء صلينا، وكنا نلقي بأنفسنا حيث كنا، فلما أصبحنا في اليوم الثالث، جعلنا نمشي على قدر طاقتنا، وكنا ثلاثة أنفس: شيخ نيسابوري، وأبو زهير المروروذي، فسقط الشيخ مغشيا عليه، فجئنا نحركه وهولا يعقل، فتركناه، ومشينا قدر فرسخ، فضعفت، وسقطت مغشيا علي، ومضى صاحبي يمشي، فبصر من بعد قوما، قربوا سفينتهم من البر، ونزلوا على بئر موسى، فلما عاينهم، لوح بثوبه إليهم، فجاؤوه معهم ماء في إداوة. فسقوه وأخذوا بيده.فقال لهم: الحقوا رفيقين لي، فما شعرت إلا برجل يصب الماء على وجهي، ففتحت عيني، فقلت: اسقني، فصب من الماء في مشربة قليلا، فشربت، ورجعت إلي نفسي، ثم سقاني قليلا، وأخذ بيدي، فقلت: ورائي شيخ ملقى، فذهب جماعة إليه، وأخذ بيدي، وأنا أمشي وأجر رجلي، حتى إذا بلغت إلى عند سفينتهم، وأتوا بالشيخ، وأحسنوا إلينا، فبقينا أياما حتى رجعت إلينا أنفسنا، ثم كتبوا لنا كتابا إلى مدينة يقال لها: راية، إلى واليهم، وزودونا من الكعك والسويق والماء. فلم نزل نمشي حتى نفد ما كان معنا من الماء والقوت، فجعلنا نمشي جياعا على شط البحر، حتى دفعنا إلى سلحفاة مثل الترس، فعمدنا إلى حجر كبير، فضربنا على ظهرها، فانفلق، فإذا فيها مثل صفرة البيض، فتحسيناه حتى سكن عنا الجوع  ثم وصلنا إلى مدينة الراية، وأوصلنا الكتاب إلى عاملها، فأنزلنا في داره، فكان يقدم لنا كل يوم القرع، ويقول لخادمه: هات لهم اليقطين المبارك، فيقدمه مع الخبز أياما. فقال واحد منا: ألا تدعو باللحم المشؤوم؟! فسمع صاحب الدار، فقال: أنا أحسن بالفارسية، فإن جدتي كانت هروية، وأتانا بعد ذلك باللحم، ثم زودنا إلى مصر.
 

سعة حفظه:

قال عبدالرحمن ابنه : سمعت أبي يقول : قلت : على باب أبي الوليد الطيالسي : من أغرب علي حديثا غريبا مسندا صحيحا لم أسمع به ، فله علي درهم يتصدق به . و قد حضر على باب أبي الوليد خلق من الخلق، أبو زرعة فمن دونه ، و إنما كان مرادى أن يلقى علي ما لم أسمع به ليقولوا : هوعند فلان فأذهب فأسمع ، و كان مرادى أن أستخرج منهم ما ليس عندى ، فما تهيأ لأحد منهم أن يغرب علي حديثا .

وقال أحمد بن سلمة النيسابورى : ما رأيت بعد إسحاق و محمد بن يحيى أحفظ للحديث، و لا أعلم بمعانيه من أبي حاتم محمد بن إدريس .
قال أبو حاتم : قدم محمد بن يحيى النيسابوري الري، فألقيت عليه ثلاثة عشر حديثا من حديث الزهري فلم يعرف منها إلا ثلاثة .
 
وهذا يدل على حفظ عظيم ، فإن الذهلي شهد له مشايخه و أهل عصره بالتبحر في معرفة حديث الزهري ، و مع ذلك أغرب عليه أبو حاتم .
 
شيوخه وتلاميذته:
 
لقد ساعد أبا حاتم  في رحلته التي طوف بها البلدان أن يسمع من شيوخ كثر، فقد روى عن الكثير حتى قال الخليلي رحمه الله: قال لي أبو حاتم اللبان الحافظ: قد جمعت من روى عنه أبو حاتم الرازي فبلغوا قريبا من ثلاثة آلاف.
 
ومن أشهر هؤلاء الشيوخ، الإمام أحمد وأبو نعيم الفضل بن دكين، وآدم بن أبي إياس، وعبد الله بن صالح العجلي، وغيرهم.
 
وأما الرواة فأشهرهم أبو زرعة الرازي ، ويونس بن عبد الأعلى ، وأبو بكر بن أبي الدنيا، وأبو داود والنسائي صاحبي السنن، وأبو عوانة الاسفرائني، وغيرهم.
 
ثناء العلماء عليه: 
 
قال الإمام الذهبي : كان من بحور العلم، طوف البلاد، وبرع في المتن والإسناد، وجمع وصنف، وجرح وعدل، وصحح وعلل.
و قال عبد الرحمن أيضا : سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول : أبو زرعة و أبو حاتم إماما خراسان . و دعا لهما ، و قال : بقاؤهما صلاح للمسلمين.
قال الخطيب: كان أبو حاتم أحد الأئمة الحفاظ الأثبات…
قال الخليلي: كان أبو حاتم عالما باختلاف الصحابة وفقه التابعين، ومن بعدهم، سمعت جدي وجماعة سمعوا علي بن إبراهيم القطان يقول: ما رأيت مثل أبي حاتم، قلنا له، رأيت إبراهيم الحربي ، وإسماعيل القاضي؟ قال: ما رأيت أجمع من أبي حاتم ولا أفضل منه. 
وقال المزى : قال أبو بكر الخطيب : كان أحد الأئمة الحفاظ الأثبات ، مشهور بالعلم ، مذكور بالفضل .
وقال أبو القاسم هبة الله بن الحسن اللالكائى : كان إماما عالما بالحديث ، حافظا له ، متقنا، متثبتا.
وقال أحمد بن سلمة الحافظ النيسابوري: ما رأيت بعد إسحاق، ومحمد بن يحيى أحفظ للحديث ولا أعلم بمعانيه من أبي حاتم.
وقال ابن كثير في البداية والنهاية: أحد الأئمة الحفاظ الأثبات، العارفين بعلل الحديث والجرح والتعديل. ومن أهم آثاره: كتاب "الزهد"، و"تفسير القرآن"، و"الجامع في الفقه"، و"الزينة"، و"طبقات التابعين".
 
وفاته:
توفي أبو حاتم  في شهر شعبان سنة سبع وسبعين ومائتين، فرحمه الله رحمة واسعة.

مواد ذات صلة

المقالات

المكتبة